د. ربيعة أبي فاضل
(أديب وشاعر وروائي وناقد- لبنان)
أَهْوَ محام أَم سياسيّ أَم صحافيّ أَم ناقد أَم كاتبُ قصَّة أَم شاعر أَم رائد تيّار أَدبي؟ أَهو رومنطيقيّ أَم رمزيّ أَم سوريالي أَم شاعر حرّ، لا فضاءَ يتّسع لخفق جناحيه؟ أَهو سوريّ قومي اجتماعيّ أَم لبنانيّ حريص على أساطير الجبل، أَم عربيّ طَنّان رَنّان، أَم ماذا؟ أَهْوَ رئيس جمعيّة “أَهل القلم”، يخوض المعارك في السِّياسة، أَم شاعر يتحرّر من خناق السِّياسة لينطلق في فضاء الشّعر؟ أَهو كلّ هذا المزيج من الحركة، والنّشاط، والابداع، فانتهى إلى لبنان الشّاعر، بعد تذوّق جذور “الجبل الملهم” لشارل قرم، 1934، ونفحات مجلّة “الحكمة”، وجِواء الشّعر، والوطنيّة، والحريّة، في أَزمنة يوسف السَّودا وميشال شيحا، وسعيد عقل؟!
1 – هاجس التجدّد:
سُئل خليل مطران في العام 1928: “ما رأيكم في التجديد”، قال: “التجديد الذي يحتاج إلى الخلق والابداع وتكوين الموضوع من أَوّله إلى آخره، لم يُقدم عليه، ولم يفكّر فيه أحدٌ، الآن… هناك محاولات لكنها لا تزال في طريق التكامل” .
في السنة عينها، تُوفَّى أديب مظهر، ورثاه صلاح لبكي بقصيدة: “عاشق الموت”، حسبَه فيها: “هرمًا عاليًا”، و”سَيّد الشّاعرين”، و”المثل الجبّار للنّاشئين”، متأثرًا طريقته السَّمانيّة في عشق الموت، والتغنّي بجماله، ومهابته .
وما إن انطلقَ العام 1924، في معهد عينطورة، طاويًا ليلَ الحرب الأُولى، حتى شرع منذ 1926، تاريخ تَملّي أَديب مظهر من بودلير وسامان والرمزيّين، وكتابته “نشيد السكون” و”نشيد الخلود”، بالتردّد على منزله في المحيدثة، وعيادته في بيروت، محاولًا التخلُّص، شيئًا فشيئًا من مناخ الوحشة، والموت، والغموض، والوحدة، والصّور الغريبة: “زرق النّجوم”، “حمر الهموم”، “العدم الجاذب”، التي نسَجها مظهر بمعاناته، وتخييلاته، وغرابته، وآلامه الوجوديَّة .
وعايش لبكي زمان عدم استعذاب جبران تويني، مؤسّس “النهار”، صور مظهر القاتمة (سئمتْ عيناه نورًا لا تراه)، في حين عدّها هو ديناميكيّة حيّة، على الطّريقة الباشلاريّة، وبقي، في مراحله الأُول، يَستوحي ما لذّ له وطاب، من مرارات الخارج، وليله، ومن تأوُّهات الداخل، وويله! جدير بالذكر أَنّ الفنّان قيصر الجميّل، وهو ناقدٌ جماليٌّ بارع، وريشةٌ راقية، مَثّل الزاوية الثالثة، في المثلَّث الـمَتنيّ الـمُبارك، الذي لا يُكرَّر، فأطلق الثلاثة اسمَ غابة بولونيا، على تلال الصّنوبر، بين الضّهور والمروج، في هذا الجبل الملهم حَقًّا، والقليل الحظّ أَبدًا!
2 – شهادة قيصر الجميّل
وَقد سُئل قيصر الجميّل، في هذا السياق: “بمَن من الشُّعراء المتقدّمين، غربيّين أَو عربًا، تأثّر صلاح؟”، فأجاب: “كان صلاح يقول أنا مكمّل أديب مظهر. لعلّه كان يعني بذلك أَنّه اتّخذ الأُسلوب إيّاه، ونفخ عنه غبار البادية. فأديب وضع رِجلًا في أوروبا، عندما قال:
وتسري قُبيل الـمَساء تناجي
دموع السّهى ودماءَ الغروب
هنالكَ حيث تَحِلُّ الأَماني
غــــــــــــدائرها وتَنامُ الطيُّوبْ
ورِجلًا ظلّت راسخة في الصحراء، عندما قال:
وترسلُها نَسمات الفيافي
إلى مَسمع الرَّبرب الواجدِ
أَمّا صلاح فقد عاش في المدينة بين الغيد، والكأس، والزّهر، وعَبَّ من الحسن، والخمر، والعطر، ما أَسكره، فأسكرنا”. وقد قرأ لبكي لدانتي وغوته وبايرون وبودلير، ولامارتين والرومنطيقيين، والرمزيّين، وعاد إلى العبارة العربيّة الصَّافية ، وراح يبحث عن ذاته، وأسلوب حياته، وإِيقاعه الدّاخلي وأُسطورته، مانحًا الشّعر بعض جهوده، موزّعًا طاقاته في غير اتّجاه، محاولًا التحرّر من سويداء صديقه مظهر، لا سيّما بعد أَن حمل قصائده إلى بيته، بعد وفاته، في حين حمل يوسف ابرهيم يزبك رسائل بعض العاشقات إليه. وكان أوّل مَن نشر حديثًا مجموعًا عن مظهر… جوزف رزق الله باسيلا، في “المكشوف” ، المجلّة التي احتضنت روائع الشعر، والقصّة، والنّقد، لكبار المرحلة الخصبة، وَمِنْ ضمنهم لبكي، والجميّل، ورئيف خوري، والياس أَبو شبكة، ومارون عبود، وآخرون. في هذا الإطار، أَيضًا، سُئل سعيد عقل عن مظهر، قال إنّه “أَثّر في عدد من الشعراء، منهم صلاح لبكي، ولشعره قيمة” ، لكنّه لم يَذكر أَنّه هو تأثّر بدوره، في قصائده الأُوَل، في المعرض، أَوائل الثلاثينات، بأَديب مظهر، كما تأثر في شعره المحكي بميشال طراد.
3 – تفلُّت من التّيارات والمذاهب
لا يحترم الشّعرَ الشّاعرَ مَن يحصر هويّته في مدرسة أَو مذهب، لأَنّ ذلك ينتقص من جدّته، وفرادته، وعبقريّته. إنَّ معجم “حنين”، عام 1961، مثّل مرحلة الاستيحاء، جرّاء طفولة، في ظلّ حرب الجوع والدّموع، وحرمان أَديب، وصلاح، وقيصر، طمأنينة الحياة، وصفاء الأَحلام. لذلك قرأنا الكثير عن الظلمة، والعطش، والموت، والوجود الـمُقفر، والغربة، والهموم، والجماجم، والحنين… وكاد الخطاب يكون واحدًا بين أَسى صلاح وعزيف يأس مظهر.
وبقي لبكي يعيش في غربته، مُستوحشًا، يجرع الهمَّ والسّويداء، إلى أَن اشتعلَ بإِحساس آخر، كما لحظ رشدي المعلوف، وهو الحبّ والجمال، والخير، نائيًا، إلى حَدّ لافت، عن دائرة التجربة المظهريّة:
أنـــــــــا عطشان إلى الحُسن فَمن يُطفــي غليلـــي
مَن لنفسي من هوى نفسي وراءَ الـمُستحيل
وعلى رغم ذلك، بقيت استعاراته تُذكّر أَحيانًا بنشيد مظهر، شأن: “أُذن السّكون”، “نفحات الخلود”، “زفرات النسيم”، لكنّ قلبه اغتسل بماء الحبّ والترقّي، فقرّر أنّه ليس من هذا التّراب، وليس من حَسدٍ وحقد، وناشد الله:
يا ربُّ عفوك بَدّل الظّلمات بَدّلهـــــــا بنــور
رحماك رفقًا بالبريء وبالضَّعيف، وبالفقير
وأَكثر ما بدا إيقاعه يحمل معاني الصُّبح، والضّياء، والأَحلام الراقصات، في “أُرجوحة القمر”، من دون أَن يتخلّى عن غرابة الصورة، وجمع الأَضداد، والإيحاء بما هو بعيد وعميق:
“ويشمُّ الطِّيبَ من كَفِّ السّكون”
فلدى لبكي، ومظهر، ورسوم الجميّل نفسه، نشيدٌ للسكون، وأَلوانٌ أَيضًا، وكُفّ، والثلاثة أَحبّوا أَرض لبنان، فكتب لبكي قصيدة بلادي، ومنها:
…بلادي فديتــــــــــــــــــك وزَّعـــتِ فـــي
البرايا فؤادَك نجـــــــــــــــوى بَخــــــــــــــــور
أَلا فانفضي الذّلَّ عنكِ، وقومي
بلادي على زعردات النّفـــــــيــــــر
في قصيدة “يا بلادي” حذَّر من الهوان، والوحل، ونصحَ بالالتفات إِلى البعيد العالي، وانتظر أَن تنثر بلادُه الإباء والحلم فوقَ السّهول والجبال. فالشاعر، سياسيًّا، يأبى، كما قال عنه سعيد عقل، “إلّا أَن يتدخّل في إقصاء البشاعة… وشعرُهُ، في هذا المجال، استئناف مدرسة في المروءة”:
قُمْ بنا نبتدع وجودًا جديدًا
ونُسوِّيه روعةً ونظاما…
هكذا، لم يكن لبكي، كما قيل، غنائيًا مائعًا، أَو شاعرًا كثيف الغموض، فعرف كيف يَقنع بينبوع جمالاته، فاقتطعها من نفسه أوّلًا، ومن الحياة، وبعثها في أَداء عذب صقيل، وبَوح مخمليّ، ذكّرنا بآيات الفصاحة يُبدعها أمين نخله، وبإيقاعات الأناقة يَصوغها يوسف غصوب، وبخيال مكوكب يُشعله سعيد عقل. وهؤلاء، لا تكمن قيمتهم في انتمائهم إلى نهج محدَّد، في التعبير والرؤى، إنما في أَصالة تجاربهم، وجمالها، وغنائيتها، وصوفيّتها، وأَبعادها الإنسانية، والكونيَّة.
الأمر الجوهري هذا، عبَّر عنه بطريقة صافية، بليغة، رائدة، راقية، صلاح لبكي، في “لبنان الشاعر”، وهو تحفة نقديّة نادرة، سنظلّ في حاجة إليها، كما إلى ما تبقّى من رموز جمال، في لبنان الـمُنازع!
4 – لا بُدَّ من رياح انفتاح
نلاحظ في عمارته الشعريَّة، قصيدتين: الأُولى تُحاور أُمَّ البيان، والذوق، والفكر الصافي، فرنسا، بعد أَثينا، كما رأى إليها:
… للفكر مَهْدٌ ثانِ
وأُختُ كلّ جمال
وأُمّ كلّ الأَماني
والثانية تحاور لامرتين:
عشتَ في الدنيا غريبًا ملهما
نَيِّرَ الفكرة شـــــــــــــأن الأنبياء
هذا التعاطف مع الثقافة الفرنسيّة لم يقف على حميد فرنجيّه، وصديقه أَديب مظهر، ولم يكن وليد احتكاك الثلاثي المتنيّ بنساء فرنسيّات، وعربيّات، وتركيّات مثقّفات جدًّا، وَحَسْب، إنّما هو توجّه وطنيّ، جعل رئيف خوري والياس أبو شبكة ويوسف الحويك وصلاح لبكي، وآخرين، ينظرون باحترام، وحنين، وإعجاب، إلى بلد بودلير وأَلبر سامان. فالأَوّل بحثَ عن اللانهائي مُمكنًا “l’absurde possible”، وعن الموسيقى، وهي الحقل الخصب الذي يرعى الجمال المتقن، الخالد. “la musique élève vers la création de la beauté supérieure”، وتراسل الألوان، والصور، والإيقاعات، والعناصر، ثُمّ الموت – الخلاص، حيث يَعثرُ المرء على الجديد! أَمّا الثاني، سامان، فقد لمس قلب لبكي، ومعاصريه، بغنائيّته، وحسِّه المأسويّ الغريب، واللَّاواعي، والحالم بنشوة الموت الكبرى “l’immense extase d’une mort” . يمكن القول، في هذا المقام، إنّ تخلّي لبكي عن روح الفطرة العالية والعميقة، عنده، شاعرًا، جعله يُخضع الكثير من شعره لسلطة الفكر، وأَعباء العصر، وتأثيرات الفضاءات الآتية من خارج الفضاء العربيّ. وهذا الأمر أفرغ نصّه الشّعّري من جمال التلقائية، والعفوية، والغنائية السّاحرة، وجعله ينهمك بالإيجاز، والرَّنين، والسوداويّة التي لا توحي دائمًا، بما هو بهيّ، ونقيّ، وأبديّ!
5 – صلاح لبكي هالةٌ ونُبلٌ
على الرُّغم من كَثرة همومه، واهتماماته، فهو كما الأجيال العصاميّة، منذ المعلّم بطرس البستاني، يخوض معارك متعدِّدة، في ميادين متنوِّعة، ولا يقبل بأن يكون ثانيًا، أَو تاليًا، أَو تابعًا، لأَنّ الكاريزما الخلَّاقة في ذاته، جعلته يتميَّز في كلّ شيء، ويتحلّى بروح راقية ونبيلة. فبعد معارك ضارية بينه وبين رئيف خوري حول جمعيّة “أَهل القلم”، وقد ترأسها لبكي غير مرّة، ونظرًا إلى التّباين في المواقف السِّياسيَّة بين الرَّجلين، وبعد انقطاع، وجفاف… علمَ الشّاعر لبكي أَن أَبا رئيف، نجم الخوري، ودَّع الدّنيا، وكان يومذاك، في الفراش، يعاني اضطرابات في القلب، فحمل قلبه، وقصد نابيه، ولو مريضًا، وأَبى إلّا أَن يرتقي الطريق الصعب ليصل ويُعزّي صديقه رئيفًا، مبرهنًا أَنّ الكبار يعرفون باتّزانهم، وحكمتهم، متى يكون التّواضعُ رفعة، ومتى تكون الوداعة شموخًا، وإنسانيّة، وغنى روح! وقد احتضنه رئيف خوري، يومذاك، مرحَّبًا بالرجل الشَّهم!.
هذا السلوك ما كان ليحصل لولا شاعرية مشرقيّة رمزيَّة، تطلّعت الأَعماق الصّوفية، الروحيّة، ونَشدت أَعلى ما في الإنسان، على الرغم من أَثقال الدُّنيا وصَخبها، وما يعانيه المرء من مشكلات.
*****
(*) جريدة النهار 7 سبتمبر 2016