سعادة الأمم بثرواتها؟

rafif.-1jpg

د. رفيف رضا صيداوي

(متخصصة في علم الاجتماع، وفي النقد الروائي- لبنان)

في مقال سابق بعنوان: “وسط هموم السياسة والاقتصاد، ماذا عن السعادة؟”، نُشر على الموقع الإلكتروني لمؤسّسة الفكر العربي (العدد 215 بتاريخ 04/07/2012)، ناقشنا استطلاعات الرأي التي تُقام في العالم حول السعادة، ومن أبرزها استطلاع معهد غالوب (WIN–Gallup International) حول الموضوع، والمؤشّرات التي يتمّ اعتمادها لترتيب البلدان أو المجموعات، بحسب مستوى سعادتها. ونحن هنا، ننطلق من النتائج التي توصّل إليها تقرير معهد غالوب حول موضوع السعادة في العام 2014 أيضاً، لكن لنناقش دلالات “السعادة” هذه المرّة من منظور نقد الاستشراق الـ”ما بعد حداثي”.

في تقرير العام 2015 إذاً، أصدر مؤشّر غالوب-هيلث واي الدولي للسعادة، تقريره عن مؤشّر السعادة في العالم لعام 2014، بالاستناد إلى مقابلات مع أكثر من 146.000 شخص، تتراوح أعمارهم بين 15 سنة وما فوق، وذلك في 145 بلداً. واعتمد المؤشّر في قياس السعادة على الجمع بين عدد من المعايير الرئيسة ومن أبرزها: شعور الإنسان بأنّ له هدفاً في الحياة،  مستوى الرفاهية المالية والحالة الصحّية الجيّدة، المشاركة المجتمعيّة، مدى الثقة في الانتخابات والمؤسّسات المحلّية، الضغوط والأعباء اليومية، وجود نيّة للهجرة من عدمها، الأمن الغذائي ووجود مأوى، مدى الاستعداد للعمل التطوّعي ومساعدة الآخرين.

هذه المعايير على أهمّيتها في توفير الأمان الاجتماعي للفرد، وفي النأي به عن القلق والخوف من المستقبل، قد لا تقود أوتوماتيكيّاً إلى سعادته أو إلى سعادة جماعته المحلّية أو دولته، ولاسيّما في ظلّ الروابط المعلَن عنها تارةً وغير المعلَن عنها تارةً أخرى بين الثروة والسعادة. حيث يعتبر البعض أنّ الثروة الاقتصادية ضرورية لوجود السعادة ولكنّها لا تكفي وحدها. وهذا ما أكّدته آخر دراسة أعدّتها “شبكة حلول التنمية المستدامة” و”معهد الأرض” في جامعة كولومبيا الأميركيّة، والتي نقلت وكالة رويترز أبرز نتائجها في 17 آذار(مارس) الفائت. في حين أنّ معهد غالوب، وفي تقريره العائد للعام2011، سبق أن بيّن ثبات رأي الأميركيّين( منذ العام 1990) حول انتفاع الولايات المتّحدة بوجود طبقة من الأغنياء فيها، على الرغم من مرور 21 عاماً كاملة، وهو الأمر الذي يعني استبطان الأفراد والجماعات والدول نظرية أنّ الثروة تؤدّي إلى السعادة حتّى يثبت العكس. لذا نسأل: كم دفعت بلداننا النامية من أثمانٍ من أجل هذه “السعادة” المزعومة؟!

edouard saiid

إدوار سعيد

الغرب السعيد مثالاً

منذ زمن الاستشراق( وهو مفهوم ظهر في أواخر القرن الثامن عشر) الذي هدف بحسب مكسيم رودنـسون إلى إيجاد فرع مختصّ من فروع المعرفة لدراسة الشرق، والذي اقتضى بالتالي إيجاد مختصّين لإنشاء مجلّات وجمعيات وأقسام علميّة لهذا الغرض، منذ ذاك الزمن أُنيطت مهمّة تحقيق السعادة- سعادتنا كعالم ثالث (أو الآخر) – بالمستشرقين. ذلك أنّ تحقيق هذه السعادة يتطلّب فهم الشرق. هذا الفهم الذي تطلّب بدوره تحوّل الاستشراق، مع احتلال نابليون لمصر عام 1798، وشيئاً فشيئاً، إلى استعمار فرنسيّ بريطاني للمنطقة العربيّة بمشرقها ومغربها.

نزعة “الوصاية” التي انطوى عليها الاستشراق استقت منظورها المعرفيّ من أفكار الأنتروبولوجي الأميركي هنري لويس مورغان، وتحديداً في كتابه “المجتمع القديم: بحوث في خطوط التطوّر الإنساني من الهمجيّة حتّى الحضارة مروراً بالبربرية “(1877) الذي حدّد فيه المراحل السبع للتطوّر الإنساني، وهي: الهمجيّة الدنيا، الهمجيّة الوسطى، الهمجيّة العليا، البربرية الدنيا، البربريّة الوسطى، البربريّة العليا، الحضارة.

ولئن صنّف الغرب نفسه في أعلى مراتب الحضارة، فإنّه منح نفسه سلطة قيادة الشعوب الأخرى للارتقاء بها في السلّم الحضاري هذا؛ حيث غدا التحضّر، الذي جعله الاستشراق رسالته الخاصّة، هو بعينه السعادة. وحيث إنّ استعمار الآخر وحكمه بات “هبة” يقدّمها الغرب الاستعماري إلى الشرق الخاضع المحتاج إلى “راشد” أو “وصيّ” إلى حين بلوغه سنّ الرشد. لذا عبّر إدوارد سعيد، الذي كان من أبرز مفكّكي المنظومة المفاهيميّة والقيميّة للاستشراق، في مقدّمة الطبعة العربية لكتابه “الثقافة والإمبريالية”، عبّر عن نموّ اتّجاه عام لدى الشعوب غير الأوروبيّة في نقد الاستشراق بالقول: ” لقد حاولتُ أن أظهِر أنّ أدباً ونقداً جديدَين قد بزغا منذ المرحلة العظيمة لفَكْفَكَة الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية. فللمرّة الأولى يصبح الأفارقة والآسيويّون  عرباً وغير عرب- الذين كانوا دائماً موضوعاً لعلم الإنسان الغربي، وللسرديات الغربيّة، والنظريات التاريخية والتكهّنات اللغوية الغربية، وكانوا في النصوص الثقافية الدليلَ السلبي على شتّى أنواع الأفكار حول الشعوب غير الأوروبية الأقلّ تطوّراً التي ظلّت جواهرها ثابتةً رغم التاريخ- خلّاقين لآدابهم وتواريخهم الخاصّة، كما يصبحون أيضاً قرّاء ناقدين لسجلّ المحفوظات الغربي”.

george corm

د. جورج قرم

السعادة في استشراق ما بعد الحداثة

ولأنّ العرب وسواهم أصبحوا قرّاء ناقدين لسجلّ المحفوظات الغربي- على حدّ تعبير إدوارد سعيد- بعدما مهّدت مرحلة الاستقلالات وحركات التحرّر العربيّة والوعي القومي لقراءة الذات من خارج عيون الغرب الاستعماري، كان لا بدّ، ومن أجل الحفاظ على النزعة الاستشراقيّة الاستعماريّة، اللجوء إلى التضليل المعرفي، ولاسيّما في الزمن “النيوليبرالي” الحالي؛ فحلَّ “مفهوم التنمية البشرية”، أو “الإنسانية” بعد انتهاء الحرب الباردة، بوصفه الترياق أو الطريق إلى “السعادة”، وذلك عوضاً عن مفهوم “التحضّر” في زمن الاستشراق القديم. ثمّ شكّل معيارُ التنمية البشرية المركّبَ الأساس الذي يتمّ على أساسه تصنيف الدول على سلّم التنمية، بحيث لم تبتعد مؤشّرات استطلاعات معهد غالوب عن روحيّته، كما لم تبتعد عنه أيضاً تقارير مثل دليل “منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية”(OCDE) لتصنيف البلدان، وفقاً لدرجة شمول العولمة لاقتصاداتها، أو تقرير “مزاولة الأعمال” للبنك الدولي، أو “التقرير السنوي عن القدرة التنافسيّة” الذي يصدر عن “منتدى دافوس”، وغيرها من التقارير الدولية، التي أصبحت الدول تتابع من خلالها، سنوياً، ترتيبها على سلالم التنمية والتقدّم. أصبحت هذه التقارير آليّة ينتحل المذهب النيوليبرالي من خلالها صفة القانون العلمي على حدّ تعبير الخبير الاقتصادي اللبناني جورج قرم (في الترجمة العربيّة لكتابه “حكم العالم الجديد: الإيديولوجيات، البنى، والسلطات المعاكسة”، الصادر بالفرنسية العام 2010) بعدما أنتجت الشمولية الفكرية النيوليبرالية ديكتاتوريّة السوق العالمي الخالي كلّياً من الضوابط، تلك الديكتاتوريّة التي أصبحت “الشعار الرئيس” و” الوصفة الفريدة”، التي يُدار الاقتصاد والماليّة من خلالها “باللجوء المكثّف إلى وضع النماذج الرياضية”.

يجري ذلك كلّه في سياق إيديولوجي نظّر له فرانسيس فوكويوما في كتابه الشهير “نهاية التاريخ” بالقول إنّ  ” الديمقراطيّة الليبراليّة قد تشكّل نقطة النهاية في التطوّر الإيديولوجي للإنسانيّة، والصورة النهائية لنظام الحكم البشري، وبالتالي فهي تمثّل نهاية التاريخ”.

هكذا، وبدل أن تتطوّر البلدان من ضمن مسارٍ أفقي يبدأ من البدائي ليسمو إلى الحضاري بقيادة الدول الغربيّة، تقوم الولايات المتّحدة، بوصفها رمز الديمقراطيّة الليبرالية والمثال الآيل إلى تحقّقها، وبوصفها تجسيداً لنهاية التاريخ، بدوْزنة توزّع قيم الديمقراطية الليبرالية، وبقيادة مسألة إرسائها في دول العالم. فمَن ينجح في تشرّب هذه القيم، يدخل التاريخ محقّقاً السعادة، ومَن يفشل يلفظه التاريخ، ويستغرق في بؤسه الذي يكون هو وحده مسؤولاً عنه!

إنّها المعادلة التي لم تتغيّر، وإن تغيّر لاعبوها وسياقاتها. ولأنّ الأدب هو الوجه الآخر للحياة، ولعلّه الوجه الأصدق الذي نبني فيه، كتّاباً وقرّاءً، عوالمنا وأحلامنا الخاصّة، فضلاً عن سعادتنا غير المشروطة، رحنا نشهد روايات عالميّة توازي في نقدها وعود النيوليبراليّة بالسعادة، بقدر ما انتقدت روايات عالميّة مطلع القرن الثامن عشر الوعود الاستعماريّة بالسعادة. فقابلت رواية “في انتظار البرابرة” للروائي الجنوب أفريقي جون ماكسويل كوتزي الصادرة في ثمانينيّات القرن الفائت، رواية “روبنسون كروزو” للكاتب البريطاني دانيال ديفو، الصادرة  في الربع الأوّل من القرن الثامن عشر. كأنّ القرون الثلاثة لم تغيّر المعادلة. قرون ثلاثة مضت ونحن لم نزل نسمع أنين من يُفترض أنّه قويّ وسعيد؛ نسمع صوت رغبته بهناء حقيقي غير قائم على تدمير الآخر. القاضي المدني في رواية كوتزي، الذي تدور أحداث الرواية على لسانه، ومن وجهة نظره، هو مسؤول، بحكم وظيفته، عن خدمة الإمبراطوريّة. غير أنّ تعاسته تكمن في دوره كشاهد زور على أنظمة تثبت نفسها ووجودها، بحجّة تمدّنها، وباسم العدالة والحقّ والسعادة، من خلال إرهاب الآخر الأضعف وتدمير حياته الهانئة (حيث إنّ الإمبراطورية المتخيّلة في الرواية، إمبراطورية الرجل الأبيض، إذا ما جاز التعبير، تستولي بالقوّة على أماكن قبائل البرابرة “البدائيّين”، حتّى أصبحت تلك القبائل تعيش على تخوم أراضٍ وواحات كانت يوماً مُلكاً لها).

هذا الشاهد الزور، ولكثرة المظالم التي ارتكبتها إمبراطوريّته بحقّ البرابرة، يعلن مرّات ومرّات عن قنوطه: ” أنا لم أطلب أكثر من حياة هادئة في زمن هادئ”؛ فيما لم يعد النوم بالنسبة إليه “مغطساً شافياً، من أجل استعادة القوى الحيويّة، بل وسيلة للنسيان، مناوشة قصيرة مع الإبادة”.

أمّا هؤلاء البرابرة، فقد ” تطلّب إغواؤهم للتخلّي عن حياتهم الطبيعيّة، كما يبدو، شيئاً ضئيل القيمة”؛ فلعلّ هذا الشيء بضآلته قد منحهم وَهْم السعادة.

****

(*) مؤسّسة الفكر العربي، نشرة أفق.

hikam 

اترك رد