د. حسّان قبيسي
الحلقة البحثيّة التي عُقِدَت في الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية، والتي دعت إليها المختصَّة في علوم التربية والتعليم السيّدة إيفا كوزما (من ”مؤسّسة الفكر العربي“)، للبحث في مشكلات كتابة قصص الأطفال باللغة العربية، وتحديد معايير لتصنيفها تبعاً لأعمار قرّائها، شكّلت حافزاً لكتابة هذه المقالة التي تعيد طرح مسألة بالغة الأهمّية على بساط البحث من جديد: تعليم اللغة العربية.
اللغة سمة إنسانية. فهي أداة تواصل مباشر بين الناس، وهي أيضاً أداة تواصل بين الأجيال لقدرتها على حفظ التراث الثقافي ونقله. وهي إلى ذلك أداة تعبيرٍ عمّا يجول في الخاطر من آراء أو أفكار أو إبداعات، وأكثر من ذلك هي رمز للهوية. فالأقوام بمعظمها يرتبط اسمها باللسان الناطقة به. ومن أجل كلّ ذلك تهتمّ المجتمعات البشرية بلغتها الأم، وتعمل على تلقينها لأطفالها، الوافدين الجدد إليها، بأقصى سرعة لا لتصبح أداة تواصل وتعبير وتنشئة فحسب، بل لتكون أداة تفكير أيضاً، وربما أولاً.
عرفت المجتمعات العربية أزمة وجودية مع لغتها. فقد استمرَّت تبعيّتها للسلطنة العثمانية الناطقة باللغة التركية ردحاً طويلاً من الزمن، عانت فيه اللغة العربية، كما عانى تعليمها، الأمرَين لولا اعتبار القرآن الكريم، في الوجدان العربي، كتاباً مرجعياً لغوياً وخلقياً، يعصم إلى هذا الحدّ أو ذاك من ضياع اللسان العربي. فقراءته وحفظه هما أشبه بواجب ديني/ لغوي في آن.
ومع انهيار الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، بدأت مرحلة الاستعمار الأوروبي بشقّيه الفرنسي والإنجليزي، وبدأت معها أزمة لغوية من نوع آخر؛ فالمستعمر يريد أن يُلحِق به بعض أجزاء المجتمعات العربية، كما فعل على سبيل المثال في الجزائر، فيعمل على ”فرْنَسة“ المجتمع ويفرض تعلّم اللغة الفرنسية كلغة وحيدة، أو يستتبعها فينشر مدارسه لتعليم لغته كلغة تعلَم في مجتمعات أخرى، ويكتب في بعض الدساتير ”اللغة العربية هي اللغة الرسمية، واللغة الفرنساوية هي لغة رسمية أيضاً!!“ فيختلط الحابل بالنابل، ولا نعود نميّز بين لغة القوم ولغة المستعمِر، وبخاصة مع انتشار تعليم مختلف أنواع العلوم، على أنواعها الصحيحة والإنسانية، بلغة غير لغة الضاد، بحجّة أن ليس هناك كتب تعليميّة باللغة العربية…
ولم تنتج “معامل تعليم ”العربية أيّة طرائق أو أساليب تمنهج تعليم هذه العلوم بالعربية (راجع دراسة قاسم شعبان وغازي غيث: ”مقاربة تاريخية لدور اللغة في التعليم في لبنان“، الوارد في تقرير اللغة والتعليم، الصادر عن الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية، 2000).
ما زاد من مشكلة اللغة العربية وتعليمها، أنه منذ بداية القرن الماضي، عاشت المجتمعات العربية على استهلاك العلوم الأوروبية ومنتجاتها. فهي لم تستطع (لم يُسمح لها، أم أنها لم تحاول؟) أن تشارك في إنتاج العلوم أو السلع واستسهلت استيرادها. وبديهي أن كلّ علم له مفاهيمه ومصطلحاته، وكلّ منتج له تسمياته وأصنافه.
وبالتالي فإن المجتمعات العربية وجدت نفسها، وما تزال، تستهلك العلوم التي ينتجها الآخرون وتعمل على نقل أجزاء منها إلى أبنائها، في مؤسّسات تعليمية داخل مجتمعاتها أو خارجها، باللغات التي أنتجت فيها، وتستهلك منتجات المصانع الأوروبية وسلعها وتسمّيها بأسمائها الأصلية، أو بأحسن الأحوال تحاول تعريبها، فتأتي مشوَّهةً عرجاء، لا يتّفق أبناء البلد الواحد على تسمية معيَّنة لمفهوم معيَّن، وتختلف التسميات ما بين الأمصار العربية، فلا نعود نملك القدرة على فهم ما يُكتب باللغة العربية من ترجمات أو ”منقولات“ (راجع بحث جورج نحاس: ”دور اللغة في استيعاب الأفاهيم العلمية“، الوارد في تقرير اللغة والتعليم)، حتى أن البعض راح يؤكّد (في التقرير نفسه) أنه من العبث التعليم باللغة العربية، لأنّها لغة قومٍ لا تنتج مجتمعاتهم أيّة علوم أو معارف (صوما بوجودة، وفؤاد صيّاح: ”تعليم العلوم باللغة العربية، اتجاهات وحلول“).
وإذا ما أراد أحدنا لأبنائه أن يتابعوا تعليمهم في الجامعات، في أرجاء الأمصار العربية، وكثير من الجامعات فيها أجنبية اللسان والهوى، أو خارجها، فعليه أن ”يُفَرنِج“ لسانهم. كلّ ذلك ولا نشهد محاولة جادة لإنشاء مجمع لغوي عربي دائم توكَل إليه مهمّة نقل المفاهيم المستجّدة باستمرار في مختلف العلوم إلى اللغة العربية، ولنا على ذلك شواهد كثيرة لا يتسع المجال لذكرها في هذه المقالة.
ليت الأمر وقف عند هذا الحدّ، فالمشكلة تصبح أكثر جذرية وصعوبة، عندما نتبيّن أنه لم تجرِ أيّة محاولة جادَّة لوضع استراتيجية تربوية لتعليم اللغة العربية، تسهم في الإجابة عن الأسئلة الثلاثة التالية:
السؤال الأوّل: لماذا تعلَم اللغة العربية؟ من أين نبدأ في تعليم اللغة العربية؟ بأيّة طرائق نعلّم هذه اللغة؟
تتطلّب الإجابة عن السؤال الأول إجراء دراسات أكاديمية لغوية وقواعدية واسعة. فاللغة العربية تعاني من مشكلات بنيوية عدَّة، منها، على سبيل المثال لا الحصر:
• غياب الأصوات في الكتابة، حيث تُستبدل بالحركات التي تغيب هي الأخرى غالباً عن النظر. فاللغة العربية وبخلاف معظم اللغات الأخرى بعامّة، والأوروبية منها بخاصّة، تتطلَّب فهْمَ المقروء قبل قراءته. إذ على القارئ أن يحدّد مسبقاً، وقبل التصويت القرائي، الفاعل فيرفع آخره، والمفعول فيجعل آخره منصوباً… وقد نتذكّر في هذا الإطار اقتراحات سعيد عقل لتسهيل كتابة اللغة العربية وقراءتها باستبدال حروفها بالحروف اللاتينية، فضلاً عن اقتراحات أخرى لم تجد لحسن الحظ طريقها إلى القبول (راجع فؤاد الطرزي، في سبيل تيسير العربية وتحديثها، الصادر العام 1973).
• الانتقال في تعلّم العربية من اللهجات العامية إلى الفصحى، مع ما يرافق ذلك من اختلاف في المفردات والتراكيب اللغوية. فأسماء الإشارة، على سبيل المثال، هي في اللهجات المحكيّة غيرها في الفصحى سيّان أكانت محكيّة أم مكتوبة، فضلاً عن تعدّد أنواعها واستعمالاتها للقريب والبعيد، وللعاقل وغير العاقل، وللذكور أو للإناث…
• ارتباط الكتابة بالقواعد مع ما يرافق هذه القواعد من تشعُّبٍ، وكثرة شوارد، وخلافات، وتداخل، وجوازات، وعلل…
• عدم وجود ما يُسمّى، في الميدان التعليمي، اللغة العربية الأساسية، أسوة باللغات الأوروبية. وفحواها أن نعمد إلى برمجة تعليم اللغة، فنضع أسساً لها تُعتمد في الانتقال بتعليم اللغة من مرحلة إلى مرحلة أعلى. والمحاولتان اليتيمتان في هذا الصدد، واللتان لم تُستكمَلا، هما تلك التي أجراها العلّامة الشيخ عبد الله العلايلي رحمه الله، وتلك التي قامت بها جامعة القدّيس يوسف في بيروت.
أمّا الإجابة عن السؤال الثاني، فتتطلَّب، هي الأخرى، إجراء دراسات معمَّقة وتجريبية، لم تشهدها الساحة التعليمية العربية على نحوٍ جادّ وموحَّد، حول طرائق تعليم اللغة العربية وإعداد المعلّمين للعمل بها.
ففي الزمن الأول كان تعليم اللغة المقروءة والمكتوبة يتمّ بالطريقة الهجائية أو التركيبية، التي تعتمد التعرّف إلى الحروف والأصوات أولاً، ومن ثم تركيب أجزاء الكلم منها بإلصاقها ببعضها البعض، مع ما يستتبع ذلك من تغيّر لشكل الحروف تبعاً لموقعها في الكلمة، مع المراعاة الدائمة لقواعد اللغة والكتابة.
ومع انتشار الطريقة التحليليّة في تعليم اللغات الأجنبية، استعارها البعض لتعليم اللغة العربية من دون الالتفات إلى خصوصيّة اللغة واختلافها في تراكيبها وقواعدها عن اللغات الأجنبية.
وعقد العزم أخيراً على اعتماد الطريقة الكلّية، أو التحليلية التركيبية، لا لسبب إلّا لأنها أثبتت فعاليتها في تعليم اللغات الأجنبية، من دون أن يستتبع ذلك أيّ تساؤل من مراكز الأبحاث: هل كانت هذه الطريقة مناسبة ومفيدة في تعليم اللغة العربية؟ ولماذا لا يتقن معظم الذين ينهون مرحلة التعليم الأساسي وحتى الثانوي مجرّد قراءة اللغة العربية الفصحى فضلاً عن كتابتها والكلام بها؟ (راجع كتاب جوزيف إلياس دفاعاً عن اللغة العربية، الصادر العام 2002).
أمّا الإجابة عن السؤال الثالث فتطول جوهر المسألة، فطالما أن وزارات التربية العربية ومراكز البحوث التربوية فيها والجامعات والمدارس على أصنافها، والمعلمين أيضاً، ومعهم الأهل وأبناؤهم، هم جميعاً على قناعة تامّة بأن اللغة العربية لم تعد لغةً تعلّم معرفةً أو لغةَ إنتاجِ علومٍ، فان تعلُّمَها يصبح بمثابة لزوم ما لا يلزم. ولولا العيب والحياء والأسباب الدينية، لرأينا المجتمعات العربية تسلك ذلك السبيل الذي سلكه بعضُها، بأن أصبحت لغة التواصل اليومي فيها، ولغة المعاملات على أنواعها، رسمية وغير رسمية، تتمّ كلّها باللغات الأجنبية التي تتناسب بسلاسة ويسر مع استعمال الحواسيب والمحمولات والدخول إلى مواقع التواصل العلمية والاجتماعية. وللحديث صلة …
*********
(*) أستاذ جامعي متخصّص في علوم التربية– لبنان
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق