يقظة الفكر الماورائي في ضوء المقاربة الحداثية

الباحث خالد غزال

يتناول أحمد زين الدين في كتابه «الحداثة ويقظة المقدس،أنماط وسلوكيات وأفكار» (الصادر عن khaled-ghazalمنشورات بيسان)، قضايا تتصل بأنماط من الثقافة السائدة في المجتمعات العربية والسلوكيات المترتبة عليها، وتجلياتها في الاعتقادات والأساطير والطقوس والشعائر والتعاويذ، وكل ما يرتبط فيها من تصورات دينية، لا تزال تلعب دورها في حياتنا وتوجهاتنا اليومية.

ويتطرق في قراءاته ومراجعاته لبعض الكتب إلى الخلفية الذهنية التي تقود الممارسات السائدة في تجلياتها المتعددة، ثم يعرّج على قضايا تتصل بالحياة اليومية للمواطن وما يكتنفها من علاقات خفية ناجمة عن منظومة من الموروث التقليدي السائد الذي يكتسب طابعاً مقدساً خصوصاً عندما يشكل مادة إعلامية وتفسيرية مع رجال الدين.

يتناول الكاتب أولاً أنماطاً وسلوكيات لا تزال تهيمن على العقل العربي، فيغوص في موضوعات تتصل بالثقافة الدينية والفكر الديني وما تراكم حوله من اجتهادات يلجأ إليه رجل الدين أو الولي ويكسبها طابع القداسة من دون أن تكون لها قدسيتها الدينية. يتناول موضوعات من قبيل: تعاويذ الجسد الإسلامي، المداواة القدسية، المزارات بوابات السماء، طقوس العبور في الإسلام، تحطيم التماثيل والتطهر الديني، الولادة التوراتية والإمام علي في الموروث الحكائي.

تحتل زينة الجسد عند المسلم موقعاً متميزاً في سلوكيته، لا ينبع من الاكتفاء بضرورة المظهر اللائق والجميل الذي يلجأ إليه كل إنسان، بل باتت زينة الجسد مرتبطة بطقوس وشعائر تضفي عليها النظرة الدينية أهمية تحيلها إلى مقدس. بات الخاتم، مثلاً، واحداً من المظاهر الدينية الواجب استخدامها لكونها سنة نبوية، أو من التقاليد التي درج عليها الصحابة في ما بعد، «حتى بات التختم إحدى سمات التقوى والصلاح، ومن إمارات الإيمان».

لا تقتصر أهمية الخاتم على الثقافات السائدة في المجتمعات الإسلامية وثقافتها، فالمسيحية أعطته أهمية تقديسية، فقد كان المسيحيون الأوائل يلبسون الخواتم، «وقد نصحهم كليمان الاسكندري في زمانه أن ينقشوا على الفصوص بعض الرموز المسيحية، مثل: الحمامة أو السمكة أو المرساة». في التعمق بدلالات ورمزية الخاتم، نكتشف أن موقعه ناجم عن اعتباره بمثابة تعويذة تقي من الضرر، وهو أحد عوامل النفع والصحة، بل المتعة والسعادة.

من الأمور التي لا تزال راهنة وذات سلطة معنوية، المقامات الدينية والمزارات، حيث يرقد قديسون وأولياء ورجال صالحون. ندر أن وجد مجتمع بشري، سواء في الإسلام أو المسيحية، إلا وكان للمزارات فيه موقع يحترمه الناس ويتبركون منه ويصل بعضه إلى حد القداسة. يشير الكاتب إلى هذه المسألة بالقول: «كل مقام ومزار ديني يحوي جسد ولي أو قديس، بل بؤرة روحية محملة بالقوة المافوق طبيعية، لاعتبار المسجى فيه، من المصطفين من الخلائق. بؤرة تنفصل عن مكانها العادي المتجانس لأنها مملوءة بنفسها، مشبعة بقداسة ما تضمه في جنباتها. والسفر إلى هذا المقام أو ذاك من مقامات ومراقد الأئمة والأولياء من السنة والشيعة، وكل القديسين في كل الأديان والطوائف، انتقال من عالم دنيوي وحقيقة أرضية، إلى عالم أخروي وحقيقة سماوية».guilaf hadasa

وتحت عنوان «أفكار ومراجعات»، يتطرق الكاتب إلى جملة مواضيع تناولها كتاب عرب وأجانب تركزت كتاباتهم على الثقافة التي أنتجتها المجتمعات العربية والإسلامية، سواء من الذين أفاضوا في شرحها من موقع إيجابي، أو الذين تعرضوا إلى هذه الثقافة من موقع سلبي. في نص عن المفكر الإيراني عبد الكريم سروش بعنوان «من التكليف الشرعي إلى الحقوق المدنية»، يشير الكاتب إلى الدور الذي لعبه سروش في مواجهة تيار رجال الدين التقليديين في إيران، بحيث استطاع خلخلة الثوابت، وتفكيك الأصول، وقلب المسلمات والأولويات، حتى بات من المغضوب عليهم من الملالي، مما اضطره إلى مغادرة بلاده إلى الخارج. فأعمال سروش تتناول الدين في مرتكزاته الفكرية وصلته بما هو مطروح على صعيد الفكر الليبرالي والمجتمع المدني. «لا يمكن مقاربة الفكرة الدينية عند سروش إلا من خلال معرفة المنظومة الفكرية المهيمنة على العالم الحديث، حيث يتعانق الدين والاقتصاد والسياسة والنظريات العلمية والمقولات الاجتماعية، بسياق واحد هو براديغم العصر الحداثي» على ما يقول الكاتب.

وتكمن أهمية سروش في نظرته التجديدية في الفقه الديني الذي يجب أن يواكب العصر، فهو يرى أن المباني الفقهية السائدة في إيران لم تعد منسجمة مع طبيعة العقلانية الحديثة، ولا مع حق الإنسان في الاختيار والمساواة. «فهذه القواعد الكلامية والاستنباطات الفقهية مبنية على نظرة خاصة لمفهوم الإنسان المكلف الذي يعيش إزاء قوة عليا، عليه إطاعتها، والإذعان لأوامرها ممثلة بسلطة الفقهاء. أما إنسان اليوم، إنسان الحداثة، فيعيش في مجتمع ليبرالي لا يرى شيئاً أعلى منه ينهاه ويأمره، بل يعيش في ظل حكومة تشارك الناس عقولهم، في حين أن الحكومة في النظام الشمولي والديني توظف عواطف الناس لمصلحتها» وفق اقتباس من سروش نفسه.

يتمتع برنارد لويس في العالم العربي والإسلامي بنظرة تقوم على التوجس والتشكيك بطروحاته التي يرى الكثيرون أنها تنطلق من موقع معاد للعرب والمسلمين على السواء. فهو أول من استخدم تعبير «صراع الحضارات» الذي استلهمه في ما بعد صموئيل هانتنغتون في كتابه الذي حذر من أن الزمن القادم سيكون صراعاً بين الحضارة الغربية المسيحية والحضارة الإسلامية. ففي كتاب للويس بعنوان «أين الخطأ؟»، يناقش فيه العلاقة الجدلية بين التقدم والتأخر، وبين الثقافة الأصيلة والثقافة المستعارة، أو بالأحرى بين الثقافة المتقدمة التي هي الثقافة الغربية العلمانية الحديثة، وبين الثقافة المنكفئة على ذاتها والمحتفظة بموروثها التقليدي وهي الثقافة الإسلامية.

يشير لويس إلى أن المسلمين يرفضون اتخاذ الغرب المسيحي أو أوروبا العلمانية نموذجاً حضارياً في العيش والفكر. بل هم «يؤثرون، لا سيما الأصوليين منهم، العيش في كنف التقاليد والأعراف والسنن الإسلامية التي لم تتبدل تبديلاً. وبقدر ما يشعر هؤلاء بجروحهم الحضارية، ويتحسسون الهوان والضعف، فإن ردود أفعالهم ضد الغرب تتفاقم عنفاً وشراسة، وتمثل العمليات الإرهابية بعضاً من هذه التجليات السافرة».

يضم الكتاب نصوصاً أخرى متنوعة وغنية في مقاربة التراث والثقافة السائدة، يجمع بينها التوجه النقدي للدور الذي تلعبه هذه الثقافة في إدامة التخلف العربي والاستعصاء عن الدخول في الحداثة والعصر، بحيث يصبح إخضاعها للنقد والمراجعة واحداً من الشروط الأساسية في ولادة ثقافة تنويرية وتحديثية عمادها العقلانية والاستجابة للتطورات التي تفرضها الثورة العلمية والتقنية وامتداداتها الفكرية والاجتماعية.

اترك رد