د. عماد عبد اللطيف
مثل شجرة عملاقة الجذور، وارفة الظلال، تشغل الاستعارة مساحة رحبة من ساحات العلم. فهي تضرب بعروقها في تربة علوم اللغة والأدب، وتغطي بأغصانها كافة العلوم الإنسانية والاجتماعية، وترمي بظلالها على العلوم التطبيقية والبحتة. هذا الاتساع المترامي لحضور الظاهرة يوازيه اتساع مماثل في منهجيات ومقاربات دراستها، وامتداد متأصل في تاريخ المعرفة. وليس من الغريب أن الاستعارة كانت دومًا في قائمة الظواهر التي أدرك الإنسان وجودها في لغته مبكرًا، وانشغلت الثقافات الإنسانية بها على تنوعها.
لقد انشغلت الثقافة العربية بالاستعارة خصوصًا والمجاز عمومًا انشغالًا عميقًا. يرجع هذا بالأساس إلى مركزية النص القرآني في الثقافة العربية، وإدراكه بوصفه النص البلاغي المثالي. وهو مشحون بطاقة مجازية هائلة، استدعتْ نشاطًا معرفيًا هائلاً موازيًا. لقد تحولت الاستعارة في الثقافة العربية إلى ساحة جدل وخلاف عميق، في دوائر البلاغة والنقد واللغة والعقيدة أيضًا. وما بين الإثبات والإنكار، والعشق والكراهية تراوحت المواقف منها، والرؤى بشأنها. ومن بين الحقول المعرفية التي اهتمت بالاستعارة يستأثر النقد الأدبي بمكانة مميزة. فقد ارتبطت الاستعارة بالخطاب الأدبي حتى كادت النظرة السائدة تقرنها به، وتُغفل – أو تتجاهل – وجودها في خطابات غيره. وكانت هيمنة الوظيفة الجمالية للاستعارة (تحسينًا أو زخرفة أو تزيينًا)، انعكاسًا لهذا الاقتران بين الاستعارة والأدب. وعلى الرغم من تراجع هذه النظرة لصالح تركيز أكبر على الوظائف التداولية للاستعارة في خطابات حياتية أخرى، وتراجع النظرة التي تقرن الاستعارة بالأدب، فإن الاستعارة ما تزال مجالا حيويًا للدراسة في حقل النقد الأدبي بخاصة، وحقل الدراسات الأدبية بعامة.
تزداد أهمية موقع الاستعارة في النقد الأدبي في إطار الثقافة العربية التراثية، وتاريخ الأدب العربي القديم. يرجع هذا إلى هيمنة النص الشعري على هذه الثقافة. فقد كان الشعر ديوان العرب، وكانت الاستعارة أشبه بمداد الديوان، وزينة غلافه معًا. وقد شغلت الاستعارة قريحة المبدعين، وتباروا في الوصول إلى مكامن لآلئها، والسبق إلى اقتناص فرائدها، حتى أصبح الشعراء يُعرفون باستعاراتهم، بقدر ما غدت الاستعارات أيقونة للشاعر، إنْ ذُكرت تُشير إليه، وتحيل عليه.
لكن خصوصية الأدب العربي في علاقته بالاستعارة تتجاوز كونها خصيصة مائزة للغة شعره؛ فقد تحولت الاستعارة بحلول القرن الثالث الهجري إلى ساحة حرب بين المبدعين والنقاد ورواة الشعر. فانقسموا حولها، وتصارعوا بشأنها، وتحمَّس أنصار الشعر القديم لتجلياتها التقليدية العرفية، بينما انحاز المحدثون لتجلياتها الإبداعية الموغلة في الغرابة والإدهاش. ونشأت مدارس أدبية تستجيب للخصومة حول التفضيلات الإبداعية المتعلقة بالاستعارة، وحزمة أخرى من ظواهر (بديع) الشعر. ولم يكن النقد الأدبي بعيدًا عن ساحة المعركة الأدبية حول الاستعارة. فقد تبلورت توجهات نقدية تؤسس وتنظر وتحاجج لصالح القيم الجمالية لتجليات الاستعارة، سواء أكانت قيم الوضوح والقرب أم التباعد والابتداع. وهكذا يمكن القول باطمئنان بأن الاستعارة شغلت قريحة نقاد العرب بقدر ما شغلت أدباءهم. وإطلالة سريعة على قائمة الكتب المؤسِّسة في النقد الأدبي في قرون الازدهار العربي من القرن الثالث الهجري إلى القرن الثامن تكشف عن تغلغل بحوث الاستعارة في هذه الكتب تقريبًا دونما استثناء، وإن حظيت بأهمية خاصة في بعض هذه المؤلفات، ومن أبرزها الموازنة للآمدي.
يُعد كتاب “الموازنة بين الطائيين البحتري وأبي تمام” لأبي القاسم الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي (ت 370 هـ) أحد أبرز الإسهامات العربية في دراسة اللغة الشعرية عمومًا، وفي دراسة الاستعارة بوصفها مكونًا جوهريًا للغة الشعر على نحو خاص. هذه الأهمية ربما كانت حافزًا للدكتور أحمد يوسف على اختصاصه بالدرس والتحليل، بوصفه مجسِّدًا لتوجهات النقد العربي المتنوعة نحو ظاهرة الاستعارة الإبداعية. يكشف هذا الاختيار عن بصيرة ثاقبة؛ لأن “الموازنة” يحوي بين دفتيه خلاصة بعض أهم المواقف والأفكار والتوجهات السائدة في زمنه عن الاستعارات الشعرية. ولأن الكتاب أخذ على عاتقه مقارنة المواقف والآراء والنصوص أيضًا؛ فإنه يوفر كنزًا من الحجج المدافعة عن الاستعارات الإبداعية (أو البديعية)، وتلك الأخرى التي تبرر رفضها وتنتقص منها، لصالح الاستعارات التقليدية أو القريبة.
على الرغم من أهمية كتاب الموازنة بوصفه مصدرًا مهمًا لدراسة الاستعارة فإن المؤلِّف لم يقتصر عليه في مقاربته لتوجهات العرب نحو الاستعارات الإبداعية، بل عدَّه منصة انطلاق نحو التراث العربي بأكمله. وهكذا يطوِّف المؤلِّف في كتابه بين أدبيات البلاغة العامة، وشروح الشعر، ومعاني القرآن وتفسيره، بهدف وضع أفكار الآمدي في السياق الفكري والثقافي العام في القرنين الرابع والخامس. وفي الحقيقة فإنه مما يُحسب لهذه الدراسة المهمة تعاملها مع التراث العربي بوصفه كلاً واحدًا، يُحيل بعضه على بعض، أو يشتبك معه، أو يستجيب له، أو يرد عليه. ونتيجة لذلك تظهر الأفكار البلاغية التي قد تبدو متناثرة عبر الزمن، أو عبر الحقول المعرفية المترامية التي تنتمي إليها الكتب الواردة فيها، أو عبر البيئات الجغرافية والثقافية التي ينغرس فيها المؤلفون- مترابطة متفاعلة متصارعة رغم تباين الزمان والمكان والاهتمام.
الاستعارات المرفوضة: إرهاصات المنظور المعرفي في الدرس العربي للاستعارة
تتبدى الطفرة المعرفية التي شهدتها الإنسانية في العقود الأخيرة أوضح ما يكون في درس الاستعارة. فالعقود الأربع الماضية (وتحديدًا منذ تبلور التوجه المعرفي في دراسة الاستعارة آواخر سبعينيات القرن العشرين) شهدت ثورة في طريقة فهم الاستعارة وطرق عملها. ولم يكن الكتاب الذي بين أيدينا بعيدًا عن التأثر بنفحات هذه الثورة، فقد وجه شراع مقاربته لظاهرة الاستعارة لتنسجم مع رياح نظرية المفاهيم الاستعارية Conceptual Metaphor Theoryالتي هيمنت على أفق دراسة الاستعارة لحين من الزمان. غير أن المؤلِّف رشَّد استفادته من هذه النظرية لتلائم موضوع بحثه ومادته.
لقد أعطت نظرية المفاهيم الاستعارية اهتمامًا محدودًا للغة الأدب، ولاستعاراته الإبداعية. فقد كان لاكوف وجونسون وزملاؤهم معنيين بالأساس بالمفاهيم الاستعارية التي تشكلها استعارات عادية “حياتية”. وكانت الفرضية الكبرى لعملهم التأسيسي تدفع باتجاهٍ مضاد للانشغال بالاستعارات الإبداعية؛ فقد ركزوا على الوظائف المعرفية للاستعارة، وليس وظائفها الجمالية؛ وانشغلوا بمدونات مأخوذة من الحياة اليومية، وليس من بطون الأدب الراقي. وعلى النقيض من ذلك، فإنَّ عمل مؤلف “الاستعارة المرفوضة”، لا يتناول الاستعارات الأدبية الإبداعية فحسب، بل يتناول نوعًا محددًا منها هو الاستعارات الأكثر إبداعية، الموغلة في غرائبيتها. على الرغم من ذلك، فإن المقاربة المعرفية شديدة التأثير في منظور هذا الكتاب. فالكتاب يتعامل مع الاستعارة – على مدار صفحاته- بوصفها تجليًا لرؤية العالم، ونتاجًا للتلاقح بين الأطر الثقافية والمعرفية والذاكرة الإنسانية. وهو بذلك لا ينظر إلى الأحكام النقدية الواردة في كتاب الموازنة بوصفها مجرد آراء نقدية، بل بوصفها اختيارات مجتمعية، وانحيازات ثقافية، وتجليًا لمواقف من الماضي والحاضر أيضًا. ولم يكن من الغريب أن الكتاب صُدِّر بمقدمة مطولة عن بعض الأفكار التي تخص نظرية الإطار والذاكرة.
يزداد تقديرنا لهذا التوجه في دراسة الاستعارة في النقد القديم حين نضع هذا الكتاب في إطاره تاريخ تأليفه الخاص. لقد أُلِّف هذا الكتاب في منتصف تسعينيات القرن العشرين، ثم أدخلت عليه تعديلات لاحقة على مدار السنوات العشر التالية. لم يكن الدرس العربي للأبعاد المعرفية والاجماعية والثقافية للاستعارة قد وصل إلى درجة النشاط والازدهار التي نشهدها اليوم. وفي الواقع فإن التوجهات التقليدية التي تستند إلى نظريات المشابهة أو التقابل من جهة، وتتبنى المنظور البلاغي (الجمالي) للاستعارة من جهة ثانية، وعطي اهتمامًا محدودًا للسياقات الثقافية والاجتماعية من جهة ثالثة، كانت هي المهيمنة على دراسة الاستعارة. وبخاصة في حقل الدراسات النقدية. وذلك لأسباب عديدة من أبرزها المفارقة التي أشرت إليها من قبل، والتي تخص التعارض بين اهتمام نظرية المفاهيم الاستعارية بالاستعارات اليومية (الميتة وشبه الميتة)، واهتمام النقد الأدبي بالاستعارات الإبداعية (المولودة للتو من رحم الابتكار). إن إطلالة سريعة على الكتابات السائدة في تلك الفترة تبرهن على أن هذا العمل يُعد من بواكير الانشغال العربي بالأبعاد الثقافية والاجتماعية والمعرفية للاستعارة.
في استعارية لغة البحث في الاستعارة
العلاقة بين لغة العلم وموضوعه أثارت جدلًا كبيرًا على مدار قرون طويلة. ويمكن أن نرصد وجهتي نظر متطرفتين في هذه الشأن. تذهب أولاهما إلى أن لغة العلم (يجب أن) لا تتأثر بموضوعه. فسواء أكان الباحث يكتب عن المبيدات الحشرية أم عن المعلقات الشعرية، فإن لغته يجب أن تكون لغة “العلم”؛ التي توصف عادة بأنها دقيقة ومحددة، وبالأحرى غير مجازية. وهؤلاء عادة ينظرون إلى الطابع المجازي الذي يصبغ بعض الكتابات العلمية على أنه علامة عدم اكتمال في النضج المعرفي أو اختلاط في إدراك الطبيعة النوعية للغة العلم. وعادة ما تستند وجهة النظر هذه إلى التصور الوضعي والمذهب التجريبي الذي ساد عدة قرون في أوروبا، والذي يمثله بدقة موقف الفيلسوف البريطاني جون لوك John Locke (1632–1704)، الذي ذهب إلى أن الاستعارة تدمِّر الفكر، وأنه يجب الخلاص منها إن أردنا الوصول إلى إدراك سليم، فالكلمات المجازية الاستعارية – في رأيه – تُزكي الأفكار الفاسدة وتضلِّل العقل.
أما وجهة النظر الأخرى، فعلى خلاف ذلك تحاجج بأن موضوع العلم لابد أن يؤثر بقوة في لغته. ومن ثمَّ، فإن لغة البحث في الشعر يجب أن تحمل آثارًا شعرية، تعكس الطبيعة النوعية المميزة للغة موضوع العلم. ويجسد رولان بارت التجلي الأكثر تطرفًا في هذا الاتجاه، حيث يتحول البحث الأدبي إلى إبداع موازٍ، يناطح بلغته ومجازاته الإبداع الأدبي.
يبدو هذا الجدل حول لغة العلم وثيق الصلة بالبحث في الاستعارة. فالاستعارة أميرة عائلة المجاز، بلا منازع، والمجاز هو قلب اللغة الأدبية النابض. لقد ذكر الدكتور محمد الولي في ملاحظة ذكية أن الاستعارة تغلغلت في لغة من كتبوا عنها حتى هؤلاء الذين عادوها ورفضوها، فقد انتقمت من كل أعدائها، وأجبرتهم جميعًا على أن يعبروا عن انتقاداتهم لها بواسطتها، في تجلي صاخب لواقع أن منتقدي البلاغة هم عادة من بين أكثر الناس استخدامًا لها وتوظيفًا لأدواتها.
لكن المجاز في اللغة هو دومًا مسألة شيوع وليس مسألة وجود، فلا يمكن لأي نص أن ينجو من حضور المجاز، لكنه بالطبع يستطيع أن ينجو من سطوته. فيما يتعلق بهذا الكتاب فإننا يمكن أن نرصد مستويين على الأقل، المستوى الأول يهيمن على لغة مقدمة الكتاب وأجزاء منه، ويبدو المؤلف فيه أقرب ما يكون إلى مذهب المدافعين عن الارتباط بين لغة العلم وموضوعه، فقد جاءت لغة أدبية، محتفية بأشكال من المجازات، ومُفعمة في كثير من عباراتها بالموسيقى. ولنقرأ معًا جزءًا من تقديم المؤلِّف لكتابه، يقول: “المجاز على هذا النحو سعي لمعرفة أعمق وأجمل، دون نفي للمعارف البسيطة القريبة. فالأم التي ترى أن وليدها هو نور عينيها لا تكذب رغم تقليدية التشبيه، والرجل البسيط الذي يتوحد مع دابته ويرى وجوده من وجودها يمثل قمة الصدق في رؤيته. ويحزن أشد الحزن وأبلغه إن أصابها مكروه، أو اختطفها موت. وعالَم الأطفال هو عالم المجاز الأكمل، أعني أنه العالم الذي لا يفرق فيه الطفل بين ذاته وكل ما يحيط به من أدوات ولعب وأشياء، فهي هو إن تحدثتْ، وإن بكتْ، وإن تحركتْ، وإن سعدتْ أو حزنتْ، وإن رضيتْ أو غضبتْ.”
اللغة الإبداعية التي تظهر في الفقرة السابقة لغة تليق بالمقدمات والخواتيم، حيث سحر البدايات والنهايات. أما في متن الكتاب فقد استخدم المؤلف مستوى لغويًّا مغايرًا، يحتفي الدقة والوضوح، لغة اقتصادية متقشفة بلاغيًا، تبدو عنايتها بتوصيل الفكرة أكبر من اهتمامها بلفت القارئ إلى جمال العبارة. ولنقرأ معًا مقدمة الكاتب للفصل الثالث من الكتاب، التي يتحدث المؤلف فيها عن أهمية التصورات النقدية للغة الشعر: “بما أن الأدب – ومنه الشعر – فن لغوي محض، فإن آليات تفسيره وفهمه ترتبط بفهم اللغة عامة بوصفها أداة عامة يستخدمها كل الناس، وبفهم لغة الشعر بوصفها لغة خاصة ذات نسب أصيل يصلها ببناء اللغة ونظمها، وذات ملامح خاصة تبدو في صياغات الشعراء. ومن ثمَّ فإن الاقتراب من تفسيرات النقاد لنماذج شعرية كنماذج الاستعارة المرفوضة يعني الاقتراب بصورة أو أخرى من نصٍّ نقدي يتحكم فيه تصور صاحبه للغة عامة، وللغة الشعر خاصة. أو قل إن مجموعة هذه التصورات هي التي وجهت ذهن الناقد إلى مثل هذا التفسير أو ذاك بحيث صار النص المنقود ذا صور متعددة، أو صورة واحدة انعكست على عدد من المرايا المتباينة”.
هذه اللغة الأدبية الباذخة حينًا، والدقيقة المتقشفة حينًا آخر تُحدث تنوعًا أسلوبيًا شيقًا. وإذا أضفنا إلى ذلك الاستبصارات الدقيقة التي يحفل بها الكتاب، والنتائج المهمة التي يخلُص إليها، والمنظور الخاص الذي يُطل من خلاله على تراثنا النقدي فإن قراءة كتاب “الاستعارات المرفوضة”، تصبح خبرة ثرية تجمع بين الفائدة والمتعة معًا.
الدوحة، يونيو 2014
*****
(*) مقدمة كتاب “الاستعارة المرفوضة في الموروث البلاغي والنقدي”، للعالم الدكتور أحمد يوسف، الصادر حديثًا عن “دار كنوز المعرفة” الأردنية.