بقلم: د.ناتالي الخوري غريب
في “عودة النبيّ” (•)، يظهر الأديبُ والإعلامي”إيلي صليبي” وريثَ نَبَوِيّ قَلَمٍ، وسليلَ ذِهَبِيِّ فمٍ، وتَقَدُّمِيٍّ فِكرٍ، تَقَمَّصَ روحَ نبيِّ جبران، وفكرَ مرداد نعيمه، متماهيًا بالمسيح الثائر، وفي عودته، ثورةٌ على تَحَجُّرِ موروثِ طقوسٍ، وبلبلةِ سَطْحِيِّ طُرُوسٍ، ويَبَاسِ قُلوبٍ، وفَسَادِ عُقُولٍ.
لقد حجّ إيلي صليبي إلى مدينة أورفليس، ينداحُ على إيقاعِ تعاليمِ نبيّه الفوّاحةِ حبًّا وذكرًا ويَمْتَاحُ من مَناهله الفَيّاضةِ لاهوتًا وزهدًا، وقد عَصَرَ جَنْيَه في أجاجينَ، فاضَتْ زيتَ حِكمةٍ ونُضجَ وعيٍ وحبٍّ، ليستشعرَ مُلِحَّ حاجةٍ إلى “عودة نبي” جبران ، الذي تربطه به صلةُ رحِمٍ مشرقيِّ المنبِت، منطلقًا معه إلى فضاء أنقى وأحبّ، جنوحًا إلى رؤية الأبديّة والتوحّد في حقيقتها.
في “عودة النبيّ”، شعشعانيّةُ قلمٍ تسَرْبَلَ بالحقّ، مشكاةَ نورٍ في ديجورِ عصرنا المتخبّط بفوضى الغرائز، وحٌمّى العصبيّات، مدركًا دوره التاريخي، حاملًا مشعل النور التوجيهي، في محاولة لاجتلاء وجه الإنسان الحقيقي ، لينحوَ به نحو الرّفعة إلى الإطلاق والتعالي فوق سطح زائل أشياء، تأسيسًا لبنى اجتماعية وفكرية وروحيّة ومعرفيّة .
أمّا لغة نبيّ صليبي ومواعظه، فكانت، أخيّة من أُخَيَّات قلائدَ جبرانَ الخُرَّد، وبُنَيّةً من بنيّاتٍ الفردوس، هي لغة الروح في شفيفِ إطلاقِها، ولطيفِ سكونِها، وتجذّرِ كيانِها في وجداننا، وتجلّى كثيف لفظها، في الكشف عن الإمكانات الخصبة للتأليف اللغوي عبر إبراز الاتحادات والتعارضات عن طريق أنساق التوازيات التي أضفت في حركيّة المعنى ومرونة الـتأليف، قدرًا عاليًا من الاتّساق والتناغم، ما أكسب نثرَه جماليّةً شعريّةً في تحقيق التوازي المعنوي مع التوازي النحوي والتركيبي، وهذا ما ولّد إيقاعًا لا ينحصر على المستوى الصوتي، بل ينظّم طبيعة الكلمات ومعناها، مبدعًا في استثارة اللغة للجوهر، جوهر المعاش وجوهر الروح، مساهمًا في توليد شعور خاص في قلب الصميم الماهوي للإنسان. وهذا الكلام ينسحب على كامل نصّه، نختار منه:”يا إلهي، أنبياؤكَ أيضًا يتعبون، وفيكَ الراحة يجدون، منك يُرسلون وإليك يعودون. أنبياؤكَ أيضًا يُرجمون ويصلبون ويقتلون، وبك يحيون ويعزّون ويخلدون”(ص137)
لقدأثبتَ صليبي قدرته على التّعامل مع ماهيّة اللغة واختراق سكونها، من أجل أن يعيد تجلّيها المرئي من خلال السياق، فاتّسمَت جماليّةُ الصور في نصّه بذوقيّة لها أبعادها التعبيريّة في المزاوجة بين المحسوس والمعقول تجاوزت حدّ الرؤى المقيّدة، إذ يحاول الكاتب أن يصطاد بخياله اللاهوتي الفكرةَ المجرّدةَ كي يعيد تركيبها عبر هذه المزاوجة، مصالحًا بين الواقعي والأسطوري، بين هموم الناس اليومية وقضاياهم والنبيّ الزائر، فكان إبداعه عائدًا إلى فاعليّة الخيال، التماسًا للحقيقة، عبر إعادة نسج المدركات السابقة وصوغها، بين زمن جبران ومدينته وزمنه ومدينته، في محاولة لاكتشاف العلاقات الكامنة في الظواهر، والجمع بين عناصرها المضادة، والتوليف بين الإحساسات المتباينة، وقد جاءت أشبه بالكشف عن غور دفين في عمق أحساس الذات، وقوفًا على مشارف الروح المعرفيّة سعيا إلى إدراك ماهيّتها وخلاصها.
وقد كانت “عودة النبي” لصليبي، توقًا إلى عطايا الله ونعمه، وهي مرتبطة ارتباطًا كليًّا، بنبيّ جبران، النبي الذي يحتاجه الناس بعد فساد قلوبهم وعقولهم، في زمن المحن، زمن فَقَدَ أُناسُه سلامَهم، لذلك، أكمل صليبي مسيرة جبران في مدينة أورفليس، وأعاده إليها بعد أن غادرها من ألف عام، شعورًا منه باحتضارها، وحاجتها إليه، متكلّمًا واعظًا على منصّة، أو معلّمًا متنقّلًا بين الناس هاديًا، متناولًا جدليّة الحياة والموت، معتبرًا أنّهما “شريكان في منظومة البدايات والنهايات”أمّا في الجسد والروح، فيعبّر عن اتّحاد السّاكن والمسكون بين ما هو من ماهيّة كثيفة وأخرى لطيفة، في رؤية اتّحادية إلى عالم الإنساني والإلهي، لذا يتّحد الشعور الكوني فيما هو حسّي. ويصبح هذا الشّعور معبِّرا عن وجود ماهويّ متميّز. فيقول:”أعماركم لا تحمل إشارات ولا استدلالات، أمّا أجسامكم فهي حواضن أرواحكم، فلها جذور وجذوع، وهي مرايا دواخلكم…” “كما تكون أرواحكم هكذا تكون أجسادكم…إبحثوا في أوجاع أجسادكم عن أوجاع أرواحكم”(ص21).
كما يدعو في قضيّة الثورة بين حقيقتها وما يريده الناس منها، إلى تدجين النزوات وتوضيب مائدة الغذاء الروحي قبلَا، وهي ارتداد عن هواجس الحياة والموت، وهي لا تكون باستكبار وانتقام وهدم وردم ولعن، فيقول:”فلتكن ثورتكم بيضاء كصفحات دفتر لم يشرع صاحبه في تمرير قلمه عليه، ودعوا لعهّار الحبر الأحمر أن يلطخوا أرواحهم بثورتهم الحمراء”(ص 27). وفي الحبّ يتبنّى نظرية نعيمه في “أنّ الحبَّ يُري ما لا يُرى” لكنّه مجهول المصدر والإقامة:”الحبّ يختاركم ولا تختارونه، يصطادكم ولا تصطادونه، يتسلّل إليكم من حيث لا تدرون، ويتلبسكم من حيث لا تشعرون..”(ص29)، ليعود ويؤكّد أنّ الحبّ مكنون الله في الإنسان. كما يحذّر الكهّانَ من الضغينة وهم المؤتمنون على معبد الرب،:”الويل لمن يحسب الملكوت مكانًا للسكن وعقارات للتمليك والبيع والتأجير. فما من صكٍّ باسم نبيٍّ وأتباعه، وما من بقعة باسم نبيٍّ آخر. وليس في الملكوت ما في الأرض وما تعهدون..(36). وأنّ الحكمة في دوام ذكر الله وتسبيحه وشكره.
لقد سكن نبيُّ صليبي حديقةَ تشبه حديقة جبران، وخاطب الشعبَ كما نبيّ جبران، بأمور دينيّة وفكرية وفلسفيّة ولاهوتيّة: متناولًا الملكوت والأرض، الثواب والعقاب، التقمّص وتكرّر الحيوات، الأخذ والعطاء، الإيمان والعجائب، العلم والإيمان، الحرية والثورة، التنجيم وعلم الغيب، العدالة والظلم، متوجّهًا إلى العجوز والشاب، المريض والمعافى، الغنيّ والفقير، رئيس الشرطة والسارق، المصرفي والكادح، الكسول والمجتهد، الفاضلة والمومس، الفيلسوف والإسكافي، الكاهن والراهب والناسك، كما تناول قضايا معاصرة مبديًا رأيه فيها بأسلوب نبيّ جبران ولاهوتيّة نظرته، كزواج المثليين وتجارة أصحاب المستشفيات، ورسالة الطبيب، وبعض المؤسسات الدينية في مدارسها، تجّار التربية:”وكيف لك وله وللكهنة أن يطردوا تلميذًا لضيق ذات يد والديه، وكيف يحرم مريض من سرير أبيض في مشفى لأنّه لا يملك قرشًا أسود..”(ص61).
ومن المواضيع الفكريّة الهامّة التي تناولها، ما نخلص إليه في ختام ملحمته عن وحدة الأديان، وقد يكون سعيًا منه إلى إظهار سعي المنحى الصوفي أو العقيدة الصوفيّة في الحوار بين الناس والثقافات، انفتاحًا على الآخر، ورفضًا للتقاتل الديني والطائفي باسم الأنبياء، وهم منهم براء، فرحمة الله تظلّل جميع خلقه، كلّ آن، على تعاقب الأزمان، فيقول:”أنّ كلّ الأنبياء واحد، وكلّ الأديان واحد، كما الله واحد، ولا يترك خرافه تضلّ مئات السنين لانتماء بعضها لنبيٍّ ودين، وانتماء بعضها الآخر لنبيّ ودين آخرين في زمنين مختلفين”(ص 110).وفي هذا إقرار بأنّ فكرة وحدة الأديان تعود إلى أنّ الله واحدٌ في ذاته، خلق الخلق َ من أجل أن يعبدوه ويحبّوه، لأنّه أبوهم وراعيهم، وقد أرسل الرسل والأنبياء لهدايتهم وتصويب أخلاقهم، لذلك فإنّ الأديان وإن تعدّدت أسماؤها وتعدّد أنبياؤها، فإنّها في حقيقة وجودها تشكّل دينًا واحدًا. وبما أنّ وحدة الأديان هي جزء من وحدة الوجود، وهي ناتجة منها، وكان قد ذكر في مكان سابق أنّ النملة أخته كذلك الزهرة، واتُّهم بالكفر، على مثال كلّ من قالوا بوحدة الوجود، نراه يقول:”الحقَّ الحقَّ أقول لكم، ما من شيء يُلقى به في أيِّ اتّجاه إلّا ويقع في أكوان الله . وما من لحظة تغفل إلّا وتصبّ في أزمان الله. للك لن يفرّط الله بذرة وخليّة ومجرّة في الحساب السماوي.”(ص111).وحتى لا ندخل في تحليل، لا تفي صفحات مقالة حقّه، حول وحدة الوجود تحديدًا، تجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة تصنيفات عديدة حول وحدة الوجود، كما أوردتها د.سعاد الحكيم في “المعجم الصوفي”، وهنا نقول إنّ وحدة الوجود التي قال بها نبيّ صليبي، ليست وحدة وجود ماديّة(ديدرو، هولباخ) ولا ماورائيّة(وحدة البراهمة)، ولا وحدة مطلقة،(ابن سبعين، التلمساني)، ولا وحدة وجود إشراقية،(السهروردي)ولا وحدة وجود حلوليّة(برهمية وبوذية ويونانية)، ولا صدورية(أفلوطين)إنّها أقرب إلى وحدة الوجود الأدبية الرومنسية كما نجدها عند وليم بليك وجبران ونعيمه. إنّها الوحدة الروحيّة، وهي وحدة وعي ورؤية إنسانيّة، يتوحّد فيها الذين يعون وجودهم، وحقيقة تجلّي الله فيهم.
ويبقى أن نقول أنّ كتاب”عودة النبي”، يجسّد عطش أهل الأرض إلى كلام ليس من هذا العالم، ليعرف الناس كيف يعيشون فردوسهم في هذا العالم.
(•) كتاب “عودة النبي”، لإيلي صليبي، دار سائر المشرق، الطبعة الأولى 2013، 138 صفحة من القطع الصغير.وقد أقيمت ندوة حول الكتاب في الحركة الثقافية إنطلياس، في السادس من آذار الجاري، تكلّم فيها معالي الأستاذ إدمون رزق والاستاذ هيكل درغام والأستاذة ماري قصيفي، وختمت بقراءات من الأديب.