لم يكن “برهوم” يتصور بأنه سيتزوج هكذا سريعاً وبأنه سيلتقي عروسه بهذه البساطة. وهو لم يعرف بالبساطة. فقد تعود أن يخطط ويعمل لكل شيء.
إلا أنه، هذه المرة، عاد من رحلة إلى جبل مريم في بلاد الإغريق، برفقة حبر شيخ، بتصورات جديدة وأفكار جديدة. على ما يبدو بحر الاغريق، المسكون بأرواح وقصص وحكايات واساطير، قد فعل فعله به. فمنذ عاد بدأ يسلم نفسه لروح الكون. وقد قيل إنه التقى أناسا في جبل الاغريق من طينة مختلفة. أناس صلوا له وحملوه إلى فوق. فكان أن انتشلوه بدعائهم من بعض الوحول حيث كان يغرق، وأروه ما كان عليه. فسقطت الغشاوة عن عينيه.
التقاها عفواً، لمّا عاد، في مجلس عزاء والدها. و قد أتى لأداء واجب براقد عرفه قليلا جداً. بالحقيقة لم يعرف “برهوم” لماذا أتى إلى عزاء رجل عرفه قليلا. إلا أنّ روح الكون ضرب له موعداً لم يكن بالحسبان. وصار المآتم باعث لقاء. لِمَ لا، فالمأتم عرس في يقين قومه ومعتقدهم.
تتالت لقاءاته بها. وتأكد أنها هي من خلق لاأجلها. فتُوجت علاقته بها بخاتم خطوبة وببركة من لدن العلي. سارا إلى الزواج من دون تردد. سارا وكلاهما، بالعادة، كانا يخافان الاستحقاقات الكبرى خشية الفشل. وإذا بهما، بعد أشهر، يسيران في معبد رصد البحر منذ مئات السنين، ويتوجهان إلى الهيكل حيث استقرت مائدة ونبيذ وإكليلان.
ثمّ صار يخاطبها، وعبق الأنغام يرتفع من حوله، في صمته:
“أراني أقف اليوم وإياك أمام الله والناس كي نشهر وعداً أبدياً بأننا سنحيا سويا ونموت سويا. والحب يغلب الموت.
تراني أقف اليوم في حضرة الله والتاريخ والرسوم وشخصياتها التي تألهت. أقف ممسكاً بيدك يا امرأة لا تشبه إلا نفسها، وأتوجه وإياها إلى الأبدية. فنختفي سوياً في عبق البخور. نرتفع معه. نحلم معه. نخطف معه إلى حيث يتكامل البشر ويتألهون.
تراني ألاقيك ممسكاً بيدك سيدتي، وأسير بك إلى ما يشاء الله، على انغام سماوية وظلال أحجار شهدت لدهور.
سيدتي، جميلة أنت كعذراء المكان التي بني الهيكل لتكريمها. سيدتي، كبيرة أنت كبر المكان وعميقة أنت عمق الزمان.
انتصب وإياك في معبد انتصب على اسم سيدة العالم التي كنت زرت حديقتها قبلا، وأبلغتني بأنها ستزوجني بنتا من بناتها”.
فزيارة “برهوم” لها كانت غالية. في احدى قراني الكنيسة جلست امرأة أقعدها المرض على كرسيها المتحرك. وراحت ترصد ابنها وعروسه. وهي قد حلمت وصلت كثيرا كي تدرك تلك الساعة. توقعت أنّ تحبل عروسه سريعاً. فمشوارها على هذه الأرض لن يطول كما أبلغت. إلا أنها كانت تعرف انها لن تقفل عينيها إلا بعد أن ترى حفيدها.
خرج برهوم من المعبد من حيث دخل. إلا أنه خرج منه برفقة رفيقة وزوجة وأم وأخت وملاك يرصد خطواته كي لا يزل. خرج وعبق الليمون يفوح من جنائن ذلك الدير المطل على المتوسط الذي طالما بهره. خرج ورحل أبعد من “كفرنسيان”. ركب البحر ومضى في رحلة استجمام وهو ممتن لصلوات أمه التي راحت تعدّ عدتها للرحيل في مشوارها إلى الضفة المقابلة. أما العروس فكانت ممتنة لروح والدها الذي كان قابعا في المكان يشارك العائلة سحر اللحظة. ويتطلع إليها وإليهم من فوق برضى. وهو قد أبى أن يستريح في دنياه قبل أن تجد طريقها. أحست أنه يشيعها وقد أطل في نظرات أمها وإخوتها وأخواتها.
ظنّ أنّ ما حدث كان ضرباً من ضروب القدر وآلهة الإغريق. إلا أنه عاد فعلم أنّ ما حصل كان ترتيباً الهياً. فحين يشاء القدير تستجيب الأقدار.
بدأ حياة جديدة. وما عاد يعيش لنفسه بل لغيره، فصار لحياته معنى. اكتشف أنّ السعادة الحقيقية لا تتحقق إلا بالتضحيات، وما عدا ذلك فسراب يقتل ويدمر ويغرق. لا يرتقي الإنسان الا بالتحديات. لا يصفو الا بالتضحيات. لا يعبر البشري إلى فوق إلا بالضيقات.