سألني عن أهلي وناسي ووطني وديني، وهو يتمعّن في كافور وبشرته السمراء، فقلت له:
أهلي هم كلّ إنسان يؤمن بالإله الواحد الحقّ، وناسي هم الصادقون والمحبّون فعلاً لا قولاً، ووطني هو الأوطان كلّها، يحكمها العدل والاطمئنان والسلام. ملوكها لا يحملون السيوف والرماح، بل ينزلون مع الفلاّحين إلى الحقول، فيقطفون الأعناب، ويحصدون القمح، ويزرعون أشجاراً تفيض بالثمار. وديني يختلف عن أديان الناس، فلا تعصّب فيه، لأنّه انتماء إلى حقيقة الخالق وليس إلى الوهم. وما أكثر الاختلافات في هذه الأيّام، لأنّ البشر انصرفوا عن عبادة الله إلى عبادة الأديان، وابتعدوا عن السماء لكي يمجّدوا ذواتهم! فصارت كلّ فئة تتباهى بأنّها تمتلك المعرفة، وأنّ الفئة الأخرى جاهلة، ويجب أن تتعلّم. أمّا في تعاليمي فإنّ المؤمن بالله لا يحتاج إلى تبشير، مهما كانت الطريق التي يسير عليها للوصول إلى الشمس في رائعة النهار.
التفتَ إليّ، وعيناه الكبيرتان تشعّان بقبس عجيب، ولاحظتُ ارتياحاً في تفاصيل محيّاه، وقال لي:
أنت تشبهني، وتشبه صديقي أيضاً، فكأنّنا درسنا في مدرسة واحدة، وتخرّجنا منها بالعلوم الرفيعة. وحقّاً أقول لك يا أخي إنّ كلّ عِلم يسعى إلى الهدم هو جهل مطلق، والجهل الذي يبني أعظم بكثير من العِلم الذي يدمّر.
سألته: أترى كافور هذا؟ إنّه أتى من الأدغال القصيّة، والآخرون الأربعة الذين معي، واحد من الهند، والآخر من الأرض المقدّسة، والثالث من فينيقيا، والرابع من جزيرة العرب… وكلّهم من وطن واحد إن تكن أوطانهم مختلفة، وأبناء رجل واحد ولو تعدّد آباؤهم، وولدتهم أمّ بعينها ولو اختلفت أسماء أمّهاتهم… وإنّ دفاعي عن كافور، ليس دفاعاً عن إنسان بمفرده، بل هو دفاع عن البشريّة كلّها، وقد زاغت ومالت عن الصواب. ولست أريد أن أغيّر طبائع الأمم، بل أن أصلحها إلى حدّ مقبول.
-غريب أنت… فالمصلحون يزعمون غير ذلك!
-من حقّك أن تتعجّب، فنحن لسنا من طينة الفلاسفة الذين يتوهّمون. ولو كنت ترانا ننشر تعاليمنا بألفاظ منمّقة، فليس هذا من باب التهويم…
-التهويم؟… نعم. نحن لجأنا إليه في زمن كان يحتاج فيه الناس إلى الروح، فألقينا فيهم خطباً غير واقعيّة، ولم نقدّم لهم حلولاً. فبعدما قلتُ ذات مرّة: “أمّا أنت إذا أحببتَ فلا تقل الله في قلبي، لكن قل أنا في قلب الله”، سألتْني الميثرا سؤالاً محرجاً، إذ قالت: ما هو الاختلاف لو قلت: أمّا أنت إذا أحببت فقل الله في قلبي، ولا تقل أنا في قلب الله؟
قاطعتُه وكأنّني أقرأ من كتاب: أنت تقصد القول: أمّا أنت إذا أحببت فقل الله في قلبي، وقل أيضاً أنا في قلب الله… سامحْني أيّها الأخ الفاضل إن اعتبرت أنّ الميثرا على حقّ، فلم يكن صحيحاً أن تثبت حالة وتنفي حالة أخرى، في حين أنّ النفي لا يؤثّر على مضمون كلامك.
-الميثرا… آه كم اشتاقت نفسي إليها! إنّها إلهة النور والإيمان والعدالة والشمس الساطعة، حارسة العقود والصداقة، ورفيقة الماشية والحصاد والمياه.
-كان ذلك من عهود قديمة، من أيّام زرادشت… والغريب أنّه لم يذكرها في أحاديثه. وأغلب الظنّ أنّها كانت إلهة لقوم عنيفين ومتعطّشين للدماء. وقد رفضَهم زرادشت.
-نعم… نعم… وقد أعدت إحياءها بطبيعة مناقضة، فعندي أنّ الحياة لا تنتهي مرّة واحدة… لقد أحببت تلك المرأة حبّ الابن لأمّه. وأعتقد أنّها كانت يقظة ولا تنام، ومن الصعب أن تخطئ في أحكامها… لها ألف أذن، وعشرة آلاف عين… وستبقى من القضاة الثلاثة الذين يحرسون الجسر بين عالمنا والعالم الآخر، ومن هناك يَعْبر الراحلون من بيننا إلى حيواتهم الجديدة.
صمتَ قليلاً، ثمّ حدجني بنظرة ثاقبة، وهو يرفع جفنيه المرهقين من الأسر:
لا تقل إنّ هناك عصوراً قديمة وجديدة، فقد تكون مخطئاً في الحكم، وليس من حدود للزمان في مسيرته الأزليّة نحو اللانهاية.
أجبته وأنا أبتسم: سآخذ بنصيحتك، ولا يهمّني إذا كان الزمان أجزاء أم كتلة واحدة… المهمّ أنّه يجري ونحن نجري معه من غير أن تكون لنا القدرة على إيقافه… فقل لي بربّك مَن نحن؟ وهل نكون فعلاً من الجبّارين؟
لم يردّ، ولاحظت أنّ الكرى قد غزا عينيه، فألقى برأسه إلى الوراء، وغفا حتّى وصلت بنا العربة إلى جانب النهر.
***
*الثلاثيّة المشرّفة بالانكليزيّة في 30 نيسان على موقع “كتب جميل الدويهي” إلى جانب النسخة العربيّة.
مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي
النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع (الفكر المهجريّ)