قراءة في كتاب ” التدين العقلاني” للدكتور مصطفى ملكيان

حسناء أسعد

hiwar logo islالدين والتّديّن مفهومان يخلط النّاس بينهما في مجتمعاتنا الحاضرة ، ففي حين يمثّل الأوّل جملة من الأحكام والنصوص والعقائد التي يبنى عليها دينٌ ما، يمثّل الثّاني طريقة الإلتزام بالدين وشرائعه.. وبالتالي فهو بشكلٍ أو بآخر مرتبط بطريقة فهم النصوص والأحكام من أجل تطبيقها.

وعليه، فإنّ من شأن أي فهم جديد للدين ذاته أن ينتج أنماطاً جديدة من التّديّن تتناسب وطبيعة هذه الرؤية المختلفة، علماً أنَّ للثقافة أيضاً تأثير بالغ على أنماط التّديّن في مجتمعٍ ما ، بحيث يعتقد المتديّن أنَّ ممارساتٍ معيّنة هي من أصل الدّين وأساسه، ثمّ ما يلبث أن يتبيّن عكس ذلك مع الاطلاع على شعوبٍ أخرى تدين بنفس الدّين، ولكنها تعيش في بيئة مختلفة، وبالتالي تعيش الإلتزام بالدين بطريقة مختلفة. وبعد البحث والتنقيب، يتضح أنه ثمة الكثير من التداخل بين ما هو ثقافيّ، وما هو دينيّ، ليؤثّر كل ذلك على كيفيّة التّديّن وشكله.

ومن هذا المنطلق، برزت رؤية معاصرة تبنّاها العديد من المفكّرين والمثقفين تدعو إلى ضرورة إعادة النّظر في فهم الدّين بطريقة تتناسب والأنماط الثَّقافية الجديدة التي أنتجتها الحداثة، وما أعطته هذه الأخيرة من دور للعقل البشريّ بعيداً عن الميتافيزيقيا. دعوةٌ كهذه كان من شأنها أيضاً أن تفرز رؤىً جديدة لطبيعة وشكل التّديّن المعاصر. ولعلّ المفكّر الإيرانيّ مصطفى ملكيان كان من روّاد هذا التّيار، ومن أوضحهم تحدّثاً عن تلك الرؤية الجديدة التي وسمها بالعقلانيّة، واستخلص منها سمات جديدة للتدين اعتبرها ملاصقة لـما أسماه “التّديّن العقلاني”، وما جعله عنواناً لكتابٍ له صادر عن مركز دراسات فلسفة الدّين في بغداد بعد أن ترجمه كل من الدّكتور عبد الجبّار الرّفاعي وحيدر نجف.

يعتبر الأستاذ ملكيان أن ” الفهم العقلاني للدين هو حق من جهة لأن بالإمكان إثباته منطقيا والدفاع عنه، ومصلحة من جهة ثانية , لأن الإنسان المعاصر لا يتقبل القراءات الدينية التقليدية الأصولية والسلفية والأيدلوجية “. وهو إذ يتحدّث عن هذا الفهم من منظار خارج ديني، أي لا يتعلّق بديانة واحدة دون أخرى، فإنّه يذكر سماتٍ عامّة يتصف بها المتديّن العقلانيّ إلى أي دين انتمى. فالمتديّن المتعقّل يطمح أن تسري ديانته في كلّ مرافق الحياة وتفاصيلها، ولذلك فهو “يطالب الدّين بفلسفة حياة شاملة..

تمنح كافّة تصرّفات الإنسان وحالاته معانيها السّامية”. وهو في هذا الإطار يعتبر أنّ “التّديّن في الأديان غير العقلانيّة ليس كالأوكسجين المنبث في جميع خلايا حياة المتديّن، بل هو كالطّعام الّذي لا يتجاوز المعدة والجهاز الهضمي إلى باقي أعضاء الجسم”.

وإلى ذلك، فإنَّ ” المتديّنون ديانة عقلانيّة لا يعتبرون أنفسهم أصحاب الحقيقة، وإنّما يفهمون تديّنهم بمعنى أنّهم طلّاب حقيقة. ويقول في هذا الصّدد: “يجدر أن نشبّه علاقتنا بالحقيقة بالسباحة لا بركوب السفن… إنَّ الّذي يستقلّ السّفينة يتيقّن أنّه نجا من الأمواج ولم يعد ثمّة خطر يهدّده..، وهو على يقين من الوصول بحيث لا يبالي بما يفعله داخل السّفينة، فلو نام في السفينة لوصل إلى مقصده، ولو بقي يقظاً لوصل أيضاً…

أمّا إذا كان الإنسان سابحاً في البحر، فإنّه لن يجد شيئاً مكفولاً له على الإطلاق، فما دام يسبح ويجيد السّباحة فهو ناجٍ من الأخطار، لكنّه بمجرّد أن يحجم عن السّباحة أو لا يسبح بنحو صحيح سيكون عرضة للهلاك”.. والمتديّن برأي الكاتب ” ليس راكب السّفينة، بل السّابح في العباب والمهدّد بعدم الوصول بأي توانٍ أو فساد في ممارسة العوم… لا يدخلنا التّديّن مملكة نضمن فيها الأمن والفلاح لأنفسنا.. بل الصّحيح هو أننا عند دخول الدّين نشرع بطلب الحقيقة ولا نمتلكها دفعة واحدة”.tadayon aklani

ثمّ يسلّط الأستاذ ملكيان الضّوء على سمة أخرى تتعلّق بـ “الممارسة النّقديّة”، إذ يعتبر أنَّ ” التديّن لا يعني التسليم الأعمى والإستغناء عن الأدلّة والبراهين”، ” والنقد هو النظر والتدبّر في مجموعة القضايا والتعاليم التي تمنح لي باعتبارها ديناً، فإذا وجدت بينها تعارضاً ظاهرياً علمت أنه ثمّة مرحلة أعمق ترتفع فيها هذه التعارضات، وبذا يتوغّل الفرد المتديّن من المعنى الظّاهري إلى المعنى الأعمق، وحتى عندما يصل إلى مراتب أعمق ستواجه إشكالات جديدة يضطر لأجل معالجتها إلى سبر الأغوار عمقاً. وهكذا يتدرّج في المراحل والمراتب إلى ما شاء الله”. ثمّ يذكر الكاتب أنَّ المتدين عقلانيّاً يرى أن “الكون محكوم بنظم أخلاقية في منتهى الدقة”، أي أنّ ” نظام الكون نظام أخلاقي، والعالم الّذي يعيش فيه له إدراكه وعلمه بما نفعل، وله إلى ذلك إرادته وردود افعاله، بما يتناسب وإدراكاته، والمقتنع بهذا النّظام يشعر بالأمن المطلق في عالم الوجود، وبالتالي كلما كان التّديّن عقلانيّاً كلما شعرنا بالأمان والطمأنينة. والمتديّن العقلانيّ أيضاً من وجهة نظر ملكيان لديه اعتقاد بضرورة ضبط النفس، ” وهذا الضبط الذاتي ليس إلا حسابات عقلانية تقول للإنسان: إنّ اللّذات العاجلة التي تتبعها ندامة مقيمة يجب أن تترك، والصّعاب الزائلة التي تتمخّض عن يسر ونعيم دايم لا بدّ أن تبادر إليها.. فالعبرة في المحصّلة النّهائيّة”…

وعليه، يذكر الكاتب أنَّ “ضبط النفس يبرعم في الإنسان المتديّن حالتي الخلوص( الإخلاص والنقاء وإزالة كل ما يتعارض مع التسامي الروحي للإنسان) والرياضة التي فحواها الإلتفات إلى أنه ” من المستحيل الوصول لغاية إيجابية بدون متاعب وبلا ثمن”.. وإنَّ هاتين الحالتين ستؤديان بالمتديّن إلى الفوز بثلاث خصال: الصلابة العاطفية في الحياة، التفرد المائز بحيث يختلف عن الآخرين ولا يعاني وضعاً انتقائيّاً، بمعنى التأثر بالآخرين واكتساب بعض ألوانهم وروائحهم، وسبر الأغوار واكتشاف الأسرار( وهذا البعد برأيه توفّره الرياضة).

يتحدّث الكاتب بعد ذلك عن سمات أخرى، فالمتدين العقلاني “يعيش في ظروف عدم الإطمئنان، ولوناً من اللايقين، بيد أنَّه بالرغم من عدم اطمئنانه يشعر بطمأنينة حالمة في أعماق روحه. والمتديّن العقلانيّ يخرج بشكل تدريجي من سيادة الآخر إلى سيادة الذات بعيدا عن التقليدية والتبعية، يخدم “أبناء جلدته لمحض اعتبارات انسانية”، يواجه “روحه الحاسرة عن كل الأقنعة بكل صراحة وبدون أي مجاملات أو مغالطات”، يستوعب “هفوات الآخرين لأنه يحاول فهم نقاط ضعف البشر”، يتمسك بــ “متبنياته ومبادئه حتى لو خالفه فيها كل المجتمع” ، ويقلّم باستمرار”غابات حياته من الأصنام والآلهة المزيفة فيتحاشى الوثنية” لأن “كافة الأشياء المرئية ليست أهلا للعبادة، بل هي أصنام طالما عبدها الإنسان بدل الله …

بعد ذلك، يتحدث المفكر الإيراني عمّا يسميه ” مشروع العقلانية والمعنوية”، معتبرا أنهما ظاهرتان لا يوجد مفر من أي منهما، فكل الثقافات والحضارات العريقة في طول التاريخ وعرضه اضطرت إلى تغليب أحد هذين الأمرين والتضحية بالآخر. والإنسان برأيه لا يدرك ضرورة “المعنوية” إلا حين يستشعر أمرين: “الحاجة إلى الدين”، “والإحساس بأن الدين بمفهومه التقليدي التاريخي الأصولي لا ينسجم مع عناصر الحداثة التي لا يمكن اجتنابها”، وبما أن” العقلانية “من أكبر وأبرز خصائص الحداثة تلك، اعتُبرت المعنوية” الدين المعقلَن” .

أما عناصر الحداثة فيحصرها الباحث “ملكيان” في ست : المنهج الإستدلالي البرهاني الذي لا يتوافق مع القراءة التقليدية للدين التاريخي، عدم الوثوق بالتاريخ وقلة الإعتماد عليه فالتاريخ علم احتمالي لا قطعي، الحداثة آنية –مكانية ” فالعقلاء لا يمكن أن ينصاعوا لدين يزعم أنه غير قابل للتجربة والامتحان”، انهيار وتزلزل الأحكام الميتافيزيقية…، سلب القدسية من الأشخاص …، وأنَّ للأديان التاريخية أحكام ومتعلقات كون اتصافها بالمحلية. ثمّ يشير إلى أن ” المعنوية تقتضي تجريد الأديان من كل المتعلقات المرتبطة بخصوصية كونها محلية”، فالدين للإنسان وليس الإنسان للدين، أي أن الدين جاء لخدمة البشرية، لأن المسألة والمشكلة الأساسية للبشرية تكمن في “العذاب والألم والمعاناة”. من هنا كان للإنسان هدفان في الحياة: الأول، معرفة الحقيقة والتعريف بها، والثاني، تقليل الألم والمعاناة
.
واعتبر الكاتب أن أدوات الحقيقة أربع:”الحس، الذاكرة، العقل والشهود في بعديه النظري والعملي. فكشف الحقيقة يخفف من الألم والمعاناة، ولكن ” لو تمكنت أنا من اكتشاف حقيقة زادت من ألمي ومعاناتي، فلا مناص لي من تحمل هذا الألم المضاعف، ما دمت أعترف بحقانية تلك الحقيقة”، أما إذا كان الإعلان عن الحقيقة المكتشفة “على رؤوس الأشهاد” ستزيد من آلامهم ومعاناتهم، فهنا لا بد من تصنيف أنواع الألم: “الآلام الفورية المؤقتة، والآلام بشكلها الجامع الشمولي”، فيجب “الإعلان عن الحقيقة التي تقلل الألم ولو على المدى البعيد، والتكتم على الحقيقة التي تزيد المعاناة حتى على المدى البعيد”، رغم أن الكاتب يؤمن بأن “الحقيقة تؤول دائما في النهاية إلى خير صاحبها ونجاته “.

وحول كشف الحقيقة التي تخفف الألم الآن ولكنها تزيده في الأجيال اللاحقة، يؤكد اعتقاده “بعدم جواز التضحية بأحد لصالح آخر قد يأتي في المستقبل وقد لا يأتي، “فلا شغل لي بأشخاص انتزاعيين لا وجود لهم الآن”. وبتعبير (راس) : لا ينبغي الخلط بين وظائف النظرة الأولية (Prima facia ) ، وبين الوظائف التي تفرضها سياقات العمل والممارسة (Actual)، وظيفتنا الأولية هي قول الحقيقة “وإن اضطررنا للتكتم عنها في ضوء تدخل أمور أخرى في صياغة الموقف النهائين” مؤكدا أن الناس ” لم يخلقوا من أجل المبادئ وإنما العكس، فالهدف منها تنظيم حياة الإنسان وخدمته”.

وفي موضع آخر، يتطرق الباحث في حديثه لمفهوم الحياة الأصيلة عند الإنسان المعنوي التي لا استعارة فيها أبداً، فيشير إلى ” أننا – في الغالب – نتبنى سلوكيات معينة إما على اعتبار أن الرأي العام يستحسنها، أو لأن الآخرين يتبنون نفس هذه السلوكيات، أو لأن شخصاً ما أمرنا بفعل كذا، ونحن نقلده ونتصرف على ضوء أوامره ونواهيه، هذه هي سمة الحياة المستعارة… بينما ” الإنسان في الحياة الأصيلة يتعلم من الجميع، ولكنه لا يقلد أحداً البتة، إنه يستفيد من تجارب الجميع بعد أن يضعها في ميزان بصيرته، ويتمعن في ظروفها ونتائجها، فهو يتفادى الإنطلاق من الصفر مجدداً “.

ومن خصائص الحياة الأصيلة أن الإنسان المعنوي باحث عن الدليل باعتبار إيمانه بــ “البرهانية”. كما أن حياته تتسم بعقلية آنية –مكانية ,لا بمعنى الرضا بما هو موجود الآن وفي هذا المكان، بل بمعنى إبرازهما، والتحرر من قيود الماضي والمستقبل، لذا لا يعاب الإنسان المعنوي أنه قبل عشر سنوات تبنى الرأي الفلاني، والآن راح ينقضه، إضافة إلى أنه يكتفي بعرض نتائج تجاربه الشخصية ولا يطالب الناس بالقبول بها
.
وعن دور التجارب التاريخية في حياة المعنوي يقول :”إنها ستؤثر فقط وفقط في احتمال اختزال المسافة والطريق أمامه “، فالحياة الأصيلة تنفع في أمرين: الأول، أنها تسهم بنفسها في تخفيف الألم والمعاناة، والثاني، أنَّها تقول لك إن قبولك وصايا الآخرين يجب أن تعتمد فيه على قناعاتك أنت.

وفي سياق الحديث عن علاقة المعنوية بمفهومي التعبد والدين، يرى الباحث أن لفظ “الدين” استخدم للدلالة على ثلاثة معاني:

1- الدين الأول : ويعني النصوص المكتوبة والمقدسة لدى الأديان .

2- الدين الثاني: ويراد فيه الآراء والنظريات والعقائد التي ترجع إلى أكثر من حقل معرفي (فقه –أخلاق – إلهيات –علم الكلام –عرفان –فلسفة – تاريخ –جغرافيا…).

3- الدين الثالث: هو مجموعة الأعمال والطقوس، ويمثل ظاهرة تاريخية”.

وأكد أنَّ التَّدين هو “الممارسة الفردية للإنسان في باب الدين”، وبوسع الإنسان المعنوي أن يتدين بدين من الأديان العالمية، ولكن ليس “بدين الجمهور وعامة الناس”، لأن خصائصه لا تنسجم مع المعنوية، فـ “دين العامة يرتكز على التعبد بينما المعنوية تقوم على أساس الإيمان دون التعبد”، كما أنه بوسع المرء أن لا يكون متعبداً، ولكن ليس بوسعه إلا أن يكون مؤمناً”، فهناك “فرق كبير بين أن تقول بأن لدينا جملة من الآراء التي لا نقدر على إثباتها والبرهنة عليها بالدليل، وبين أن يقال أن لدينا آراء نتبناها لأن فلانا قال بها”.

أما عن مشتركات الأديان والمعنوية فيعتبر ملكيان بأنَّ النظام العام نظام أخلاقي، على أن هذا المبدأ يمثل الوجه المشترك بين جميع الأديان في العالم ، وجميع الأديان التي نعرفها تقبل بالقاعدة الذهبية القائلة : عامل الناس كما تحب أن يعاملوك.”

في سياق آخر يبين الكاتب أن “الغاية القصوى للإنسان هي التخلص من الألم والمعاناة”، فكل الأبحاث تؤكد هذه الحقيقة سواء الأبحاث في مجال علم النفس الفلسفي، أو في مجال الفسيوكولوجيا أو علم النفس التجريبي المختبري ” , ويظهر أن جميع الأنظمة والتشكيلات التي أوجدها الإنسان عبر التاريخ كان يتوخى من ورائها تحقيق هذا الأمر”، من قبيل الأنظمة الأسرية والسياسية والإقتصادية والتربوية وما إلى ذلك… من هنا جاءت الأديان لتقلل من هذه المعاناة لدى الإنسان.

ويرى الكاتب أن الأنظمة الدينية شأنها شأن أي نظام آخر هي عرضة لثلاثة تحديات:” الجهل، والخطأ، وسوء النية ” وبالتالي ” قد يتحول الدين في بعض الموارد إلى منتج للألم والمعاناة”، ومع ذلك يرى الإنسان أن الدور الذي يلعبه الدين في التقليل من معاناة الإنسانية أهم من الموارد التي يكون فيها سببا لمضاعفة هذه المعاناة، لذا نجد العقلاء يلتزمون بالدين دوماً.

وإن كانت غاية الإنسان التخفف من المعاناة والألم , فالسؤال ما هي مناشئ هذه المعاناة ؟ وما هي نتائجها؟ يجيب الكاتب أنه ” ينبغي التفكيك بين أمور ثلاثة من باب الألم والمعاناة: أصل الألم والمعاناة، البحث في منشأ الألم والمعاناة، والبحث في الآثار المترتبة على الألم والمعاناة”. فالألم والمعاناة ليسا بأمرين داخليين فحسب، بل هما أمران ذاتيان كالحب والبغض”، ولهما مناشئ قد تكون ذاتية وقد تكون موضوعية”. ذاتية من قبيل نوعية القناعات والتطلعات، وموضوعية من قبيل وجود الفوضى في المجتمع … فإذا كانت العوامل الموضوعية الخارجية متساوية، فإن الإختلاف على صعيد العوامل الذاتية يقود إلى اختلاف في درجات الألم والمعاناة بين الأفراد المختلفين، “وبالتالي لا دليل يثبت قدرتنا على أن نمحو نهائيا جميع المناشئ الموضوعية للألم والمعاناة في هذا الكون، ولا دليل على أنه سيأتي يوم من الأيام يعيش فيه الناس في عالم لا يوجد فيه مصدر للألم والمعاناة “، “والشيء الوحيد القادر على تشخيص الآثار والنتائج الناجمة عن الألم والمعاناة هو علم النفس الشخصي وعلم النفس الإجتماعي”، “ولا ينبغي الخلط بين المرض وبين الألم والعناء “.

“إن المصدر الرئيسي للألم والمعاناة هو المعتقدات الخاطئة التي يحملها الإنسان , والمقصود المعتقدات غير المطابقة للواقع سواء بسبب الوهم أو بسبب التضليل “، ” فالإنسان المعنوي وإن كان هدفه الأكبر التقليل من الألم والمعاناة”، “فإن هاجسه الأكبر هو الخشية من أن يكون مخدوعا”، لذا “يحرص على التحرك عن وعي ونباهة”، فلا ” يرضى بالطمأنينة والبهجة والرضا الباطني إذا كانت هذه الأمور ناجمة عن تصوراته الخاطئة عن الواقع المحيط به .

وعن أسباب بروز التيار المعنوي في القرن التاسع عشر، يوضح الكاتب أن الدين في موارد عديدة بات سببا لظهور الآلام، فظهر لدى بعض الناس “تساؤل جديد حول إمكانية العثور على طريق يعينهم في التخفيف من آلام البشرية، من هنا كانت نقطة البداية لظهور المعنوية”.

ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تظافرت ثلاثة عوامل وأدت معا إلى تحول الاتجاه نحو المعنوية منها: اتساع المعرفة بخصائص الأديان والمذاهب الأخرى، حيث عكف علماء الإجتماع على بحث خواص الأديان والمذاهب على تنوعها وآمنوا بالنتائج الجديرة بالاهتمام، تبين حجم المخاطر التي يمكن أن تسفر عن الخلافات التي توجدها الأديان بين الناس وتبين عدم إمكانية إثبات المزاعم الميتافيزيقية لأي دين من الأديان.

فكان إذاً من الطبيعي ظهور إنسان يقبل بالخصائص الإيجابية للدين، ويتحفظ على الخصائص السلبية فيه، وقد كان لـ “شوبنهاور في ألمانيا دور بالغ الأهمية في هذا الإطار .

إنَّ إعادة قراءة هذا الكتاب تأتي في ظروفٍ يعيش فيها الوطن العربيّ حالة من السّويداء جرّاء تداخل الميتافيزيقيا والمعتقدات الدينية والأيديولوجية وتطلّع كل” جهة متديّنة” إلى أنَّ مشروعها أو رؤيتها هو الأصوب.. إنَّ ذلك النّمط من التّفكير أدى عبر التاريخ ولا زال يؤدي إلى الكثير من المجازر والمذابح، وكل ذلك باسم الدين وباسم إنتاج الخلاص للإنسانية.. ولذلك لعلّ هذا الكتاب يقدّم فهماً جديداً لغايات وكيفية تطبيق الدين بالطريقة العقلانية التي تتماشى مع العصر، كما تتماشى مع تطوّر العلم، وتحقيق الإنسانية…

اترك رد