د.آمال قرامي (*)
تعود المطالبة بتحقيق مبدأ التناصف في تونس وتوفير الفرص المتكافئة للجنسين، على أساس المساواة والعدالة، إلى العقد الأخير من القرن الماضي، نتيجة سعي الحركة النسائية التونسية آنذاك، إلى حثّ الحكومة على فتح المجال أمام مشاركة فعّالة للنساء، وتمكينهنّ من نيل مواقع صنع القرار وفق مبدأ التمييز الإيجابي. لكن إقرار التناصف في الدستور بعد اندلاع الثورة (الباب الثاني من الدستور المتعلّق بالحقوق والحرّيات،الفصل 46) أحدث نوعاً من الإعصار داخل المجلس الوطني التأسيسي، وخارجه، فما هي أسباب هذا الإعصار؟ وما هي أبعاده؟
ما إن اندلعت الثورة في تونس، وشرع أعضاء “الهيئة العليا لحماية أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي” في مناقشة القانون الانتخابي لاختيار أعضاء المجلس الوطني التأسيسي، حتى ارتفعت أصوات النسويات مطالبات بتكريس مبدأ التناصف عند تشكيل القوائم الانتخابية المترشّحة. ولم يكن هذا المطلب ليمرّ من دون إحداث جدل واسع بين مختلف الشخصيات الوطنية والمكوّنات المدنية، والأحزاب السياسية، فأفضى في نهاية الأمر إلى الموافقة على إقرار مبدأ التناصف. وبذلك أضحت تونس أوّل دولة عربية تحقّق هذا المطلب الأنموذجي.
ولئن توقّعت النسويات، وغيرهنّ من النساء المنتميات إلى التيارات اليسارية أو الليبرالية.. أن التناصف سيمكّنهن هنّ بالذات من ولوج قبّة المجلس التأسيسي، باعتبار أن الصورة النمطية التي تصاحب حزب النهضة ذي المرجعية الإسلامية تجعل قبوله لترشيح النساء في انتخابات 2011 عسيراً، فإن وقع المفاجأة كان شديداً. إذ كانت النسويات أقلّية مقارنةً بنساء حزب النهضة اللواتي حصلن على أعلى نسبة تمثيل.
وبقطع النظر عن ظهور نساء “مجهولات” على صعيد النضال النسائي أو الحقوقي أو الوطني، فإن ترحيب مختلف مكوّنات المجتمع المدني بحضور هؤلاء في المجلس التأسيسي كان كبيراً؛ ذلك أن هذه الفرصة ستمكّن النساء (من مختلف الانتماءات الطبقيّة، والأيديولوجيّة، والجهويّة..) من اكتساب خبرة، والتمرّن على العمل السياسي، والحال أنهنّ حُرِمن من قبل من المشاركة في الشأن السياسي.
لكنّ نقل ما يجري داخل المجلس التأسيسي من نقاشات، وجدل، ومعارك وسباب، وشتم، وتلاسن، وسخرية.. مكّن التونسيين والتونسيات من الوقوف عند مجموعة من الاستنتاجات تخصّ نساء التأسيسي:
– إن ثقافة أغلب النساء محدودة، ومعرفتهنّ بالجانب القانوني شبه مفقودة، ومن ثمّ كان إسهام بعضهنّ خارج الإطار المتوقّع، ويومئ في الوقت نفسه، إلى ولعٍ بالخطابة، وتركيزٍ على قضايا لا تعدّ من مشمولات عمل المجلس، الذي انتخب ليكتب الدستور، لا ليعالج قضايا الهوّية، والتطبيع، والمقدّسات وغيرها، وهذا ‘الاستعراض” يعدّ وسيلة تلجأ إليها هؤلاء لحجب قصورهنّ المعرفي.
– لئن برزت نساء تطوّر أداؤهنّ على امتداد سنوات، فإن حضور أغلبهنّ كان صوريّاً، ويقتصر على رفع الأيادي عند التصويت، والاستجابة لأوامر الحزب. فكنّ بذلك في خدمته تابعات، وغير قادرات على التعبير عن مواقفهنّ. ولذلك كان غُنم هذه الفئة الحاضرة/الغائبة من المجلس (مرتّبات خياليّة) يتجاوز قدرتهنّ على خدمة قضايا جميع التونسيين، كالتهميش وغيره.
– ولع بعضهنّ بصناعة صورتهنّ فاهتمَمْنَ بمظهرهنّ، وخطابهنّ، وحرصن على الظهور في وسائل الإعلام، بل على البحث عن إثارة الرأي العام أحياناً، من خلال طرح مقترحات لا صلة لها بنمط عيش أغلب التونسيين؛ من ذلك ما اقترحته النائبة عن حركة النهضة سنية بن تومية من توفير الماء في الصيف، لأنه موسم الزفاف، أو تخصيص قطارات وشواطئ للنساء، وبيت للشهداء يلتقون فيه.. وليس يُخفى أن هذا الحضور الباهت، والأداء الضعيف دعَما الصور النمطيّة، التي تَقرُن النساء بالضعف والانسياب وراء العواطف، والبحث عن الإغراء.
لقد مثّلت هذه الملاحظات الحجج التي سيرفعها عددٌ من القياديين، كلّما واجهتهنّ النساء بتطبيق مبدأ التناصف في مختلف الهياكل الحزبية، والحكومية، والنقابية والمنظمّات، والمؤسّسات، والجمعيات التي سرت إليها “عدوى” المطالبة بالتناصف. وعلى الرغم من عسر العثور على نساء ناشطات من جهة أولى، ومقاومة العقلية الذكورية لتشريك النساء في المجالس التنفيذية، من جهة ثانية، فإن المشهد تغيّر؛ فقد نجحت نساء عدّة، خلال المسار الانتقالي، في المشاركة في صنع القرار، داخل مختلف الأطر المكوّنة للمجتمع المدني، وإن كان حضور هؤلاء في الوزارات غير معبّر عن الكفاءات النسائية التونسية الحقيقية. فالحكومات المتعاقبة همّشت النساء جاعلةً مشاركتهنّ في البناء السياسي أقلّ بكثير ممّا كان عليه الأمر قبل الثورة. وتلك لعمري مفارقة!.
لم يتوقّف نضال التونسيات عند هذا الحدّ. إذ أُعيد طرح هذا المطلب داخل المجلس التأسيسي من جديد، وذلك على إثر رفض أغلب النوّاب أن يتمّ انتخاب الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات وفق مبدأ التناصف (رُفض هذا المقترح بـ 109 أصوات مقابل 62 صوتاً مؤيّداً). وقد مثّل هذا النكوص حافزاً جعل النساء من مختلف المنظّمات الحقوقية، ونساء الجمعيات المؤمنات بالمساواة يجاهدن من أجل الدفاع عن مطالبهنّ، والضغط على النوّاب والنائبات حتى يتمّ إقرار التناصف في الدستور. ولبلوغ هذه الغاية تقدّمت كتلة من النائبات بمقترح ينصّ على أن :” تضمن الدولة تحقيق مبدأ التناصف والقضاء على كلّ أشكال العنف ضدّ المرأة …”، وذلك تعويضاً عن النصّ الموجود في مشروع المسودة: “تضمن الدولة حقوق المرأة وتدعم مكاسبها”.
لم يمرّ هذا التعديل ويقرّه الدستور (الباب الثاني من الدستور المتعلق بالحقوق والحرّيات، الفصل 46) من دون أن يحدث إعصاراً داخل المجلس، وخارجه. وانقسم القوم رجالاً ونساءً إلى “معسكرين”. تمثّل موقف الفئة الأولى في الدفاع عن التناصف، وحجّتهم في ذلك أنه علامة على تطوير حقوق النساء، ولاسيّما بعدما أبلين البلاء الحسن أثناء الثورة وبعدها، ودافعن عن مكاسبهنّ فمثّلن قوّة ضغط يُحسب لها حساب، في التوازنات السياسية. كما أنّ إقرار التناصف يُعدّ اعترافاً بنضال التونسيات، ووفاءً لقيم الحداثة، التي سارت عليها تونس منذ الاستقلال، فضلاً عن كونه علامة التزام بروح الثورة التي نادت بالكرامة، والمساواة، والعدالة بين الجميع، وهذا المطلب متطابق مع ما جاء في الفصل 46 من الدستور من التزام الدولة بتحقيق المساواة.
أمّا الرافضون لمبدأ التناصف فقد احتجوا بأن البلدان الديمقراطية لم تقرّ هذا المبدأ الذي لا يعدّ في مصلحة المرأة، بل إنّه علامة على التمييز بين الجنسين، وإقرار ضمني بأنّ المرأة “ناقصة” و”ضعيفة” وتحتاج إلى من يقف إلى جانبها، فيكون بمثابة الوصي عليها. فـ”التناصف المفروض هو أسوأ إذلال للمرأة” (أحمد القديدي، “التناصف المفروض أسوأ إذلال للمرأة”، موقع “بوابة الشرق”). أضف إلى ذلك، إن التجربة أثبتت أن أغلب اللواتي احتلَـلْن مواقع داخل المجلس، لم يكن أداؤهن جيّداً، بل إن منهنّ من كنّ مهرّجات، أو مهتمّات بالتقاط الصور، والردّ على المراسيل القصيرة على هواتفهنّ أو الحديث مع بعضهنّ… وعلى هذا الأساس حذّر بعض النوّاب من تحوّل التناصف إلى موضوع مزايدة سياسية باستعمال المرأة لضرب الخصوم السياسيين، وهو إهانة لها.
الواقع أن المعركة لم تتوقّف عند هذا الحدّ إذ لم تُسعد الجمعيّات النسائية (جمعية مساواة وتناصف، التحالف من أجل نساء تونس، رابطة الناخبات التونسيات..) بنيّة أغلب النواب العدول عن تضمين التناصف في القانون الانتخابي. ومن ثمّ واصلت الناشطات التحرّك، وتنظيم الاحتجاجات، والضغط على رئيس المجلس التأسيسي من أجل إقرار التناصف العمودي والأفقي [ لقاء مع رئيس المجلس يوم 23 نيسان/ أبريل 2014]، وتوزيع البيانات والعرائض، والتعبير عن مواقفهنّ في مختلف وسائل الإعلام.
وكان الحسم يوم25 نيسان (أبريل) 2014، إذ صادق المجلس التأسيسي على القانون الانتخابي، وبمقتضى الفصل 24 منه يتعيّن على الأحزاب السياسية تشكيل القوائم الانتخابية على أساس مبدأ التناصف، والتناوب بين الجنسين (أي مثلما حدث في انتخابات المجلس التأسيسي في تشرين الأول/ أكتوبر2011).
ومرّة أخرى احتدم النزاع بين الرافضين والمناصرين، ووصل الحدّ هذه المرّة إلى تعبير نائب عن بنية ذهنيّة متغلغلة، وفهم ذكوري للتناصف، حين دعا إلى “رجوع النساء إلى بيوتهنّ وغسل أقدام الأزواج”.
لا شكّ أن يقظة الجمعيات النسائية وغيرها من مكوّنات المجتمع المدني قد جعلت مكسب التناصف يٌثبّت في الدستور. ولكن لا يذهبن أحدٌ إلى حدّ الاعتقاد بأن الناشطات انتشين بفضل هذا الإنجاز؛ إذ عبّر أغلبهنّ عن استيائهنّ الشديد لإسقاط مبدأ التناصف الأفقي من الفصل 24 من القانون الانتخابي الذي جاء مناقضاً ومنافياً، من منظورهنّ، للمساواة والتناصف المنصوص عليهما في الفصول 20، 21، 34 و46 من الدستور. ومعنى ذلك أن النضال مستمرّ في مثل هذا السياق التاريخي الذي تمرّ به تونس، وغيرها من البلدان العربية التي تشهد تحوّلات متفاوتة، ولكنّها تسير في اتّجاه تغيير المشهد السياسي الاجتماعي لما فيه مصلحة النساء، وإن انتشر كره النساء، وبلغ التطرّف حدّه. إن الديمقراطية لا تتحقّق من دون تمكين النساء من حقوقهنّ.
وفي انتظار خوض المرشّحات تجربة الانتخابات المقبلة، تستعدّ الجمعيات النسائية والحقوقية لتأهيل المترشّحات، وبثّ التوعية في صفوف الناس، وبخاصّة في الأرياف والقرى، لتوفير المناخ الملائم لضمان التناصف، والتمثيل المتساوي بين الرجل والمرأة، في الشأن السياسي بعامة، وفي المجالس المنتخَبة على وجه الخصوص، وتأمين حضور النساء، ومشاركتهنّ الفاعلة في الحياة السياسية.
*********
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق
(*) بروفسورة في الجامعة التونسية