توثيق المؤرخ أ.د. عمر تدمري
تصوير أ. د. خالد عمر تدمري
يذكر المؤرّخ د. عمر تدمري نقلاً عن شيخ قرّاء طرابلس محمد نصوح البارودي رحمه الله أنه: «في سنة في سنة 1309هـ/1891م. تمّ تجديد بناء جامع الحميدي المعروف قديماً بجامع التّفاحي، والذي يُعرف الآن بجامع حميدي البلد.
وليجري الاحتفال بافتتاح الجامع بعد تجديده، طلب مسلمو طرابلس من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني أن يأذن لهم بذلك ويُصدر براءة بتعيين خطيب للجامع، فاغتنم السلطان هذه الفرصة، وأهدى أهل طرابلس شعرة من أثر الرسول (صلى الله عليه وسلّم)، تقديراً لولائهم للدولة العلية.
وضعت الشعرة في علبة من الذهب الخالص، وأرسلت مع أحد الباشوات في فرقاطة خاصة، وعندما وصلت إلى الميناء خرج أهالي المدينة، من مسلمين ومسيحيين لاستقبالها، وكانت فرحة عمت المدينة بأسرها، وعندما نزل الباشا العثماني حاملاً العلبة، تناولها منه الشيخ حسين الجسر، رحمه الله، ووضعها على رأسه وحملها إلى الجامع الكبير.
وكان الأثر الشريف مُهدى في الأصل ليوضع في جامع الحميدي، ولكن الشيخ علي رشيد الميقاتي أقنع رجالات البلد بأن يوضع الأثر الشريف في الجامع المنصوري الكبير لكونه أكبر مساجد المدينة، ولكون جامع الحميدي بظاهر البلد في ذلك الوقت.
هكذا تمّ بناء غرفة خزنة الأثر النبوي الشريف، وشهد الجامع المنصوري احتفالاً كبيراً حضره الآلاف من المسلمين الذين تقاطروا من أنحاء طرابلس وقرى قضائها للتبرّك برؤية الأثر الشريف وتقبيله، وظلّت شوارع طرابلس مزينة لمدة سبعة أيام، والموالد تُقرأ في المآذن والبيوت احتفالاً بهذه الهدية الشريفة”.
والأثر النبوي الشريف في الجامع المنصوري الكبير بطرابلس هو شعرة من لحية الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) أهداها السلطان عبد الحميد الثاني إلى مدينة طرابلس سنة 1309هـ/1891م. كُتب على الهلال الذهبي، الذي يشكّل غطاءها:
“أهدى هذه الشعرة المكرّمة مولانا السلطان عبد الحميد خان سنة 1309 بعنوان (لحية سعادت)، منحنا الله شفاعة صاحبها الأعظم( صلّى الله عليه وسلّم) / الموجّه عليه خدمتها محمد رشدي ميقاتي”.
كما نُقش حول الأنبوب الذي يحتوي الشعرة هذا البيت من الشعر:
لم تُعط في كل العوالم شعرة خُلقت جميع الكائنات لأجلها
اللحية الشريفة المباركة
كان الصحابة الكرام يجمعون قصاصة شعر النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، حينما يحلق رأسه ولحيته الشريفة ويحتفظون بها تبركاً وذكرى. يقول سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه: “رأيت الحلاق يحلق للنبي (صلّى الله عليه وسلّم) والناس مجتمعون حوله لا يتركون شعرة واحدة تسقط على الأرض إلا التقطوها”.
ونقل عن أم عمارة في السنة السادسة للهجرة أثناء عمرة الحديبية أنه (صلّى الله عليه وسلّم) وضع قصاصة شعره عند شجرة كانت بجانبه، فتناولها الصحابة رضي الله عنهم شعرة تلو شعرة، وتقاسموها في ما بينهم، حتى إن أم عمارة أخذت خصلة منها، وبقيت عندها إلى أن توفيت. وكان المرضى يطلبون الخصلة الشريفة من أم عمارة ليغتسلوا بمائها بنيّة الشفاء.
وفي حجّة الوداع حلق معمّر بن عبدالله لرسول الله (صلّى الله عليه) وسلّم وأعطى الشعر المبارك إلى أبي طلحة الأنصاري ليوزعها على الصحابة الكرام. وأخذ القائد الشهير خالد بن الوليد (رضي الله عنه) خصلة من مقدمة شعر رأسه (صلّى الله عليه وسلّم) ووضعها في عمامته حتى آخر عمره.
وفي إحدى الحروب سقطت عمامته على الأرض فهرع وراءها مخاطراً بنفسه، ولما سألوه عن ذلك أخبرهم أن فيها خصلة من شعر رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، وأنه لم يهزم في حرب ببركتها.
وهذا فاتح أفريقيا عمرو بن العاص (رضي الله عنه) لما حضرته الوفاة كانت معه شعرة من أثر رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، فوضعها تحت لسانه متفائلاً بأنها تخفف عنه السؤال في القبر.
ويحكي “إسماعيل حقي البورسوي” في كتابه “تحفة العطائية” أن نور الدين زنكي، أحد ملوك الشام، كان معه بعض أظفار رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) وشعرة من شعر رأسه (عليه الصلاة والسلام)، فأوصى أن توضع الشعرة على عينيه والأظافر على شفتيه عند وفاته، فنفذت وصيته. ولهذا امتلأ ضريح نور الدين الشهيد بالأنوار المحمديّة، وهو يزار إلى اليوم والدعاء عنده مستجاب.
وما زالت اللحية الشريفة تنتقل من جيل إلى جيل حتى يومنا هذا. وتوجد اللحية الشريفة في بعض المساجد التاريخية، وكذلك عند بعض العائلات والشخصيات المعروفة. وغالباً ما توضع اللحية الشريفة في قوارير مملوءة بشمع العسل من الطرفين، ثم تلف هذه القوارير في أربعين طبقة من الصرر حيث توضع في صندوق صغير، ويوضع الصندوق على منضدة صغيرة فوق أعلى درجات المنبر ثم يغطى بغطاء أخضر، ويفتح للزيارة مع الصلوات على النبّي في الليالي والأيام المباركة وخاصة في ليلة القدر.
وهكذا تلتهب محبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قلوب العاشقين الذين آمنوا به دون أن يروه، وتخف لوعة الشوق إلى الرسول (عليه أفضل الصلوات)، وأتمّ التسليم بعض الشيء برؤية شعرات من لحيته المباركة.
ويتم الحفاظ على اللحية الشريفة في أكثر المساجد داخل قوارير صغيرة، غير أنها في قصر طوب قابي باستانبول وضعت في محافظ من الذهب والفضة، وزخرفت بأبدع الزخارف، وطعمت بأنفس قطع الياقوت والزمرد والألماس. والمعهود أن تودع هذه المحافظ في صناديق من الخشب المزين تزيناً بديعاً والمغطى بقماش جيد أو بقطع من كسوة الكعبة المعظمة، كما هو الحال في المقتنيات المباركة الأخرى.
كلام الصور
1- الشعرة النبوية
2- البروفسور خالد تدمري أثناء وضع الشعرة النبوية المباركة في صندوق التبرّك في الجامع المنصوري الكبير العام الماضي
*************
بالاشتراك مع aleph-lam
www.georgetraboulsi.wordpress.com