بيت “أم برهوم”

الأديب مازن.ح.عبود

mazen-1كانت الريح تضرب الحارة القرميدية المكتسية صخراً والقابعة على صخرة من صخور “كفرنسيان”. والحارة كانت تنطحها.

وكانت أم “برهوم” تحتضن أولادها في الداخل كدجاجة، متكلة على ربها كي يقيها وأولادها أنواء العواصف. وكان الأولاد يلعبون والنار ترسل من الداخل رسائل سلامية تخطها مدخنة في مصحف الأديم المتعطش إلى الكلمات.

اختلف العالم في الخارج عمّا في الداخل. وقد كان للداخل بوابات وأمخال تنطرها ملائكة سمّرت على حوائط الحارة العتية صوراً لملوك وبطاركة قديسين رحلوا. أقاموا في المكان. فأضحوا يشاركون الأولاد وأمهم حاضرهم بعبق ورحيق ماضيهم. كانوا أمثلة للفتيان والفتيات. كما كانت الوالدة تستحضر سير قادة استطاعوا حفر الصخر بفعل محبتهم وصبرهم وإيمانهم. وغداً يكبر الأولاد وتصبح الأحلام حقيقة والأمنيات واقعاً. غداً حتما سيكون يوم آخر.

كانت الرياح والعواصف تعصف خارجاً. والعواصف حروب أيضاً. وقد قيل إنّ اللذة أسرت الكثير من الناس خارجاً وجعلتهم رهائن. وكان يوافي العم “ابراهيم” ابن البراري محملا بقصصه حول الحرية والثورة والبرية. تلا عليهم عصر ذلك اليوم قصة “ابن آوى” الذي أسره مرة. فبلّ طرف ذيله بالوقود، وأشعله. وأطلقه إلى حيث غريزته تقوده. فعدا باتجاه دجاجات “إيليا” لالتهامها وأيضاً هرباً من النار التي راحت تستعر بفعل الهواء، حتى التهمته قبيل وصوله إلى محيط التبّان حيث كانت الدجاجات. والكثير من الناس كانوا يشتعلون في الخارج ويشعلون العالم من حولهم. ثمّ تكلم عن اتفاقية “سكس بيكون” أي “سايكس بيكو”. واعتبر أنّ الطلب الشديد على “البيكون” (الجبنة الأجنبية المعروفة) والجنس (الساكس) أعمى الكثيرين. فتفلتت عيونهم من ميادينها، فسقطوا. وأبلغهم أن النفوس كي تدرك الجمال عليها أن تتغذى روحا. و”برهوم” أحبّ الجمال. فكان أن قرر تغذية أخيه واختيه ريحاً وصون أعينهم في ميادينها.

فصار يحصر نظره بشهيقه وزفيره ولا ينظر أبعد من هناك، وذلك كي تكون عينه في ميدان نفسه. وعلّم إخوته هذه “العلومية”. كما راح يفتح النوافذ، في كل مرة تهب الريح كي يقتاتوا جميعاً روحاً. فكان أن أصيبوا بالبرد ومرضوا. ولمّا استقصت الأم عن السبب، علمت أنّ الأولاد أشبعوا إنفلوانزا جراء التعرض للريح في فصل العواصف. فكانت أن عاقبت “برهوم” صاحب النظرية. وبكى الصبي ألماً. وذلك لأنّ مقصده كان أن يغذي إخوته روحاً وليس برداً و”إنفلوانزا”.

فالعقاب كان بانتظار من يخالف قواعد المنزل التي تصون البيت من الخارج،. فالنوم بعيد شروق الشمس، كان ممنوعاً. إذ إنّ اشعتها، إذا لامست النيام تفسدهم . والمبيت قبيل الغروب قاعدة ذهبية تضمن سلامة المنزل وسلامه.

كانت الملائكة تحمي البيت… ولكم حملته مغبة أن يقع في النار!! فقد كانت النار تلتهب من حوله وفيه دون أن يحترق.

أحلى الجلسات كانت حين يوافي الأسمر كي يحلّ ضيفاً على طاولة الوالد. فيلتهمان الأطايب ويحتسيان العرق. وينتظر الأولاد مفاعيل المشروب العجائبية على الكهل الظريف الذي يروح يرقص. ويبني قصوراً في الليل سرعان ما يمحوها النهار.

كما كانت توافي العمة “أليس” التي حصّلت من معارف الدنيا الشيء الكثير في الأدب الفرنسي والروسي. وقد بدأت تفقد ارتباطها بالواقع. وتعيش في عالمها التوليستوي. فتنطق بأشياء غريبة ومفيدة. فتدعو أهل المنزل إلى الاستحمام ولو مرة في السنة، بالدموع والتنهدات كي يبرأوا!!! كما تدعوهم إلى التنبه من أولاد آوى. وسرعان ما كانت تعود إلى الواقع بعد انتهاء رحلاتها في عوالم روسيا وقصور فرنسا. كان لذلك البيت روّاد. كان لبيت أم “برهوم” روح. وروحه كانت هي.

اترك رد