الأديب إيلي مارون خليل
طرحتُ، بِدايةَ المقالة السّابقةِ، ونهايتَها، مجموعةً من الأسئلةِ الحادّة، الصّارخة، الجارحة، بصيغة استفهام العارف الأجوبة. فلمَ طرْحُها، إذًا!؟ لإعلان الألم، لإشهاره بصوتٍ أعلى أكثر نَفاذًا وإيلامًا. فهل يحصُل المنتَظَرُ المرْجوُّ!؟
من تلك الأسئلة، مَثَلا: مَن هو السّياسيّ بالمعنى الحقيقيّ؟ مَن هو السّياسيّ المسؤولُ الملتزِم؟ وبالمعنى الحضاريّ؟ كم من مُطالِعٍ حقيقيٍّ، بين سياسيّينا؟ ومن مثقَّفٍ حقيقيّ؟ كم من بينهم، مَن هو واسعُ الآفاق، شُموليُّ المعرفةِ؟ مَن، من بينهم، وضع كتابًا في حقلٍ جِدّيّ مهمٍّ؟ وكنتُ أودّ أن أسأل غيرَ ذلك ممّا قد يكون أَعمق حَدّةً وأبلغ آلَمًا…
ما قصدتُ أن تكونَ الإجابةُ عن تلك الأسئلة كلِّها سلبيّةً، أي لا أحد. فهناك مَن أحضر لهم ندواتٍ فكريّة مهمّة، أو أستمع إليهم في أمسياتٍ أدبيّة وفكريّة وإنمائيّة وفنّيّة مميَّزة. لكن، كم يبلغ عددُهم؟ كم تبلغ نسْبتُهم؟ وتاليًا، لِمَ لا يعلو صوتُهم؟ لمَ لا يُظهرُهم الإعلام؟ لمَ لا يستطيعون أن يضعوا أنفسَهم في المقدّمة؟ لمَ لا يُصبحون، همُ القادة الّذين يعرفون حاجات الوطن وأهلِه؟ لِمَ هم يبقون وراء الزّعيم فلا يخرجون من تحت عباءتِه؟ ألهذا الحدّ هم خاضعون؟ أعرف أنّ الثّقافة قوّةُ تحريرٍ تُنقِذُ فتبني. فلم لا يفعلون؟ لم لا يكونون، همُ المتنوِّرون، قادةَ الشّعوب؟ أينهم من غاندي؟ وديغول؟ ومارتن لوثر كينغ؟ ومانديلا؟ وآخرين!
وسألتُ: إلى متى نبقى سائرين وراءَهم؟ هل نحن قُطعانٌ نمشي “على عَماها”، كخِراف بانورج (Panurge)!؟ ألا نتساءل: إلى أين، هم بنا، آخذون؟ والنّدرة المثقَّفةُ منهم، هؤلاء، ألا تفكّر في “إعلان” حرّيّتها؟ وترك استتباعيّتِها، والرُّضوخ؟ ألاستتباع عبوديّة تُنَكّل بالذّات الكريمة، فأين كرامتُهم!؟ ونحن، أعني الشّعب، لمَ نظلّ قابلين، خانعين، مادّين رؤوسَنا لنيرهم، به يقيّدوننا، غيرَ راحمين، ونحن غير واعين؟ ألا نَعي وضعَنا؟ بيننا كثيرون متنوِّرون غير تابعين، يُعلون الصّوت، فلم لا نصدّقهم؟ لمَ لا نُصَدِّق صُراخَم!؟ ألا يعلِنون وجعَنا، وبرغباتِنا يُصَرِّحون؟ فلم لا ندعم صوتَنا!؟ لمَ لا نُعْلي صُراخَنا!؟ أم نحن، عن ذلك، كلِّه، غافلون!؟ أو له جاهلون!؟
لا أعتقدُ أنّ الشّعبَ يتّصفُ بالغَباوةِ! إنّ “صوت الشّعبِ صوتُ الله!” فلمَ لا نرفعُه!؟ كلُّنا نتألّم. كلُّنا نُعاتي. كلُّنا نحيا الواقعَ نفسَه. فلم لا نتحرّك!؟ لم لا نُظهِرُ وَعْيَنا، أو ما إليه يُشير!؟
مِثْلُ هذه “الّلماذات” كثيرةٌ على تَنوُّع، خطيرةٌ على مسؤوليّة، ترتكز إلى وعيٍ ناضج، وهي عندنا جميعًا، فلم لا نرفعها عاليًا؟ لم لا نُطلِقُ، بها، صُراخَنا؟ نُعلن آلامَنا ورغباتِنا والطّموح؟ لا يحيا شعبٌ ساكت! والشّعبُ السّاكتُ لا يبني وطنَا. ألثّقافةُ؟ هي أن تعملَ بها! ألوعْيُ؟ هو أن تتصرّفَ بوحْيه! ألمسؤوليّة؟ أن تُثابرَ في تَحَمُّلِها! ما سوى هكذا يكون شعبٌ ليبنيَ وطنًا حقيقيًّا، يستوعب الأجيالَ الآتيةَ، فيه تحيا حرّة، سعيدة، به تفاخر، وبها يعتزّ!
ألوطنُ الّذي لا شعبَ حيًّا فيه، يتفكّك. ما يتفكّك زائل. ما يزول لا قيمةَ له، فهو لا يُعتَدُّ به!
ألسّياسيّون، عندنا، ولا تعميم، أمّيّو الأخلاقِ والقِيَم! فالأمّيّ ليس مَن لا يُجيد قراءة ولا كتابة، إنّما هو مَن لا يعرف الأخلاقَ، ولا القِيَمَ، ويحيا من دونها. أو هو مَن يحفظُها ولا يعمل بها! فالحفظ ببّغائيًّا يكون. والببَّغائيُّ مقلّدٌ من دون فهم، مُكَرِّرٌ من دون تجديد. والمُكَرِّرُ، غيرُ المجدِّدِ، آسِنٌ. والآسنُ عَفِنٌ مهترئٌ يأنفُ منه الجميع، ويبتعِدون عنه، غير آسِفين. فلم لا نبتعد، نحن، عن سياسيّينا الآسِنين؟ ألم نشتمّ، بعد، روائحَهم من خلال صَفَقاتهم والسّمسَرات، وهي، كلّها، كلُّها، ضدّ مصالح الوطن والمواطنين!؟
أعرفُ، أنا، أنّ كلاًّ منّا، نحن أفراد اللشّعبِ، يعتبرُ زعيمَه/ربَّه مُغاير للآخرين. فهو، بنظره، الواعي والمسؤول والبعيد النّظر واالصّادق… إلخ. هذا لأنّنا، كشعب، نفتقد حِسَّ المسؤوليّة وتِقنيّة المحاسَبة؛ إذ من أين يأتي السّياسيّون؟ وبوساطة مَن؟ وكيف؟ فهل ننتبه لنتّعِظ؟ فإن بقينا على الاعتقاد،هذا، رافضين الموضوعيّة والصّراحة والصّدق والمسؤوليّة والوعيَ والمُحاسَبةَ، فسنُعيدُ إنتاج الزّعماء أنفسِهم أو أبنائهم والأحفاد… ونظلّ نتظلّم! فما الفائدة!؟
إنّ شعبًا يعي ويُحاسب، لَيستحقّ أن تكتَبَ له الحياةُ في وطنٍ حضاريٍّ راقٍ!
إنّما، يبقى السّؤال: طالما أنّي أكتب في هذا المَنْحى، فلا شكّ في أنّ بعضكم يتساءلُ أهو غبيٌّ أم هو صَبور!؟
حقًّا، حقّا: أغبيٌّ، أنا، أم أنّي صَبور!؟
**********
ألجمعة 27/6/2014