تحيّة إلى “المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ” في يوبيله الذهبي

د. أَحـمـد عُـلَـبـي

Dr. Ahmad Olabi-logoعندما تأسّس “المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ” عام 1964 اتّخذ، عَقِبَ سنوات خمسٍ على تأسيسه، مقرّاً له في محلّة رأس النبع، وذلك في شارع محمّد الحوت، وفي الجناح الأرضيّ الجنوبيّ من بناية دمشقيّة، الواقعة على مقربة لصيقة من مسجد عثمان ذي النُّورين.

وأنا كنتُ من قاطني رأس النبع، وفي الشارع الذي يحمل اسم جَدّيَ الأعلى، وَفْقَ شجرة العائلة، والعِهْدة على الراوي، فنحن أصلاً عائلة العُمَري، نسبة إلى عمر بن الخطّاب، ثم غَدَوْنا، بحكم المهنة، العُلَبي. وكان يسكن قُبالتنا الزعيم الوطنيّ رياض الصلح، وكم شاهدته يقف على الشرفة الصغرى وِقفةً مماثلة لوِقفته الراهنة في الساحة التي تحمل اسمه. وكان شارع محمّد الحوت، حيث حلّ المجلس في عهده الأَوّل، مسرحاً لتنقّلاتنا ونُزُهاتنا وشيطناتنا. وكان “الحوت” موضع سُؤْلنا، فعرفنا أنّه أحد فقهاء بيروت في القرن التاسعَ عَشَرَ، فخفّ توجّسنا من اسمه.

وكنتُ فتًى عند تخوم العاشرة عندما حضرتُ حَلْقةَ ذكرٍ في بيتٍ متهالك يقع في الزاوية المقابلة شرقاً لمسجد ذي النُّورين. واضطربت الأَجساد وتمايلت، ثم اشتدّ بها الوَجْد وانقدح النداء المتهدّج: الله، الله، الله. على أنّ ما قرّ في أَضلعي من تلك الأمسية الليلاء، وما زال حتّى يومنا شديدَ العصف في فؤاديَ، هو صوت الشادي بالمدائح النبويّة. المهمّ أنّ هذا الذِّكْرَ انعقدت حَلْقته عند شيخٍ من آل التمساح. ومن غرائب الأَقدار أنّ هذا البيت المتهالك نهضت في مكانه بعدئذٍ بناية للدكتور رِضْوان. وخلال الحرب الأهليّة المدمّرة صعد إبنا رودولف إلى سطح البناء، لسقاية ياسمينَ جارهم العزيز الدكتور رِضْوان ورياحينَه وورودَه، على أنّهما لم ينزلا من السطح إثر ذلك، بل إنّهما ثابرا على الصعود هذه المرّة إلى أعلى عِلّيّين، لأنّ قنّاصاً في الجهة المقابلة عند دير راهبات الناصرة قد اصطادهما!

لكم أن تتخيّلوا مقرّاً لمجلسنا الثقافيّ الجنوبيّ قد جمع في أَحضانه الحوت والتمساح. وكان لقب الخليفة عثمان موضع عَجَبنا، فعرض لنا الشارح أنّه اقترن بإبنتين من بنات الرسول هما رُقيّة وأمّ كُلْثوم، فجمع النُّورين؛ في حين أنّ الإمام عليّاً فاز بنورٍ واحد متمثّل بفاطمة الزهراء.

ذكريات

ومن الذكريات التي أَحملها، من هذا المقرّ الأَوّل للمجلس، أنّ الصديق الراحل محمّد دكروب ألقى من على منبره حديثاً لم أَعد واعياً لعنوانه أو لمحتواه، على أنّ أحد الحضور سأله، عهدذاك، لماذا تركتَ كتابة القِصّة؟ فأجابه دكروب أنّه لا يدري كُنْهَ تركه. وفي الأَعوام التالية قال محمّد غير مرّة، أنّه أحسّ أنّ عُدّته الفنيّة غير وافية. وفي زمن الغروب ندم محمّد على تخلّيه عن هذا الفنّ القَصَصيّ؛ خصوصاً أنّ حياته الأولى، في رِحاب مسقِط رأسه “صور” كانت حافلة ـ كما أخبرني في مقابلة مطوّلة، غير منشورة حتّى الآن، أجريتها معه نهاية عام 1981 ـ حافلة بالمادّة التي لم يُحسن استغلالها قصصيّاً إلاّ في حدود ضيّقة. ومن الأُمور الطريفة التي كان مقرّ المجلس شاهداً عليها أنّنا التقينا، عند رصيفه، محمّد دكروب، والمناضل القِدّيس خليل الدبس، وكاتب هذه السطور، عصر ذات يوم؛ وكنتُ وخليلاً نتابع في ذاك العام دراستنا في صفّ البكالوريا فرع الفلسفة، وفي معهدٍ يقع قريباً ممّا سيغدو مقرّ المجلس، وهو مدرسة اللاييك الفرنسيّة عند محلّة الناصرة. وبادر محمّد إلى تهنئتي بودٍّ غامر، لأنّني، كما أخبره خليلٌ، دخلت حزب الطبقة العاملة. وكما هناك نهار وليل، فهناك دخول وخروج؛ وأنا الآن معنيّ بالدخول، أمّا الخروج فحكاية أخرى لها أوانها.Dr. Ahmad Olabi

وكان من نصيب المجلس، شأن القوم الذين انحدر من أَصلابهم، أن عمد إلى حياة الترحال، ينصب خيام عمله حيث يتيسّر المكان؛ إلى أن فاز بمقرّه الذي أَفضنا في الكلام على ما علق بذاكرتنا من مفارقاته، وذلك عام 1970. ثم هبطت علينا الحرب الأهليّة بموبقاتها وشرورها، والمجلس الميمون واقع عند خطوط التماس، بين بيروت المنقسمة على نفسها إلى شرقيّة وغربيّة. وهكذا اضطرّ القيّمون عليه إلى مغادرة رأس النبع ومبارحة الحوت والتمساح. وذلك لأنّ المسلّحين الذين ملأوا الساحة قد استظرفوا الثقافة فحلّوا منعَّمين في عَرَصَات المجلس، ومقرّه بناء قديم رحب الأَرجاء. بات المجلس مهجَّراً، وبما أنّه سبق له ممارسة حياة الترحال فقد عاود سيرته الأولى وحمل خيامه هنا وهناك، إلى أن جاء الفَرَج واتّخذ عام 1980 مقرّه هذه المرّة في محلّة المزرعة، عند نزلة برج أبي حيدر، خلف محطة بدران للوَقُود التي صارت بعد عمر طويل محطة توتال. وكان المقرّ الجديد بيتاً، ثم ضُمّ إليه البيت المجاور للتوسعة واستيعاب النشاط الثقافيّ والوطنيّ المتنامي. والمنبر الذي نقف فوقه الآن من خيرات البيت المجاور المُضاف.

“المجالسُ مدارسُ”

يقول المَثَل الشعبيّ، المُثْقَل بالتجاريب: “المجالسُ مدارسُ”. والمجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ، الذي نتحلّق حوله، مزهوّين، للاحتفال بانقضاء خمسينَ سنةً زاهراتٍ على نهوضه غرسةً مباركة في حياتنا الثقافيّة؛ هو مدرسة لسَدَاد الرأي، للوطنيّة التي لا تساوم على الثوابت والجذور، لنُصْرة العدالة على مختلِف تلاوينها، ولبثّ الوعي الوهّاج الذي من دونه نمشي في دياجير عالمنا سَبَهْللاً، لا ندري من أين الطريق، ولا كيف السبيل إلى تلمّس الصِّراط التقدّميّ المستقيم. وكم جلسنا إلى مائدة هذه المدرسة النيّرة، مدرسة المجلس الثقافيّ؛ سواءٌ في الديوانيّة المشبعة بالودّ والشاي الجنوبيّ العابق؛ أم في القاعة حيث تتوالى على منبرها، الذي بات عريقاً، أَصواتٌ جهيرة تخاطب العقل، وتستنهض الهمّة، وتطرح التَّسْآل، وتقرع الناقوس. إنّ ما قيل فوق منبر المجلس الثقافيّ يكوّن تراثاً حافلاً في الأدب والفكر والاقتصاد والإيديولوجيا والسياسة وفي كلّ مناحي الحياة اللبنانيّة والعربيّة. فليس المجلس جنوبيّاً إلاّ من حيث التسمية والاهتمام الجزئيّ؛ ولكنّه، فضلاً عن ذلك، لبنانيّ صميم، يذهب هواه في جهات الوطن الصغير يعتنقها؛ وعربيّ أصيل، يُدرك القيّمون عليه أنْ لا قسمة ولا تفريق، فالعروبة التقدّميّة البنّاءة نَبَتَ شَتْلها عند هذا الشاطئ، وعلينا رعاية هذه الأَغراس، وخصوصاً أنّ دنيانا العربيّة الراهنة تحفِل بكلّ عجيب، بحيث بات المغرضون يزرعون الشكوك وينثرون الأَراجيف حول قوميّتنا وتاريخنا وحضورنا وهُوِيَّتنا ومستقبلنا. إلاّ أنّ المجلس، في مسيرته الخمسينيّة، كان دوماً العين الساهرة، والسجلّ الناصع. ولمؤرّخٍ لهذه الحقبة الثقافيّة في لبنان أن يقف بإمعانٍ عند تراث هذا المنبر ـ المدرسة، فهو مَشْعَل كان على الدوام مُضاءً ومُشعّاً.

الثقافة الوطنيّة

عندما ينبري دارس لرصد معالم الثقافة الوطنيّة في لبنان فهو واقف، بلا ريب، عند ثَمَرات الآداب والفنون والعلوم، وهو معنيّ بالفكر وفتوحاته، وهو ملتفت إلى مُنْجزات المسرح والسينما، وهو مصغٍ إلى الغناء والموسيقى، ولنا في هذا الباب قِسْط مشرِّف؛ كما لا بدّ له أن يعود إلى المجلاّت الأدبيّة، فهي سجلّ حافل حملت طُرُوسه تفاصيلَ الحِراك الثقافيّ ودبيبَ الأَفكار التنويريّة وموجَ الدعوات الإصلاحيّة والثوريّة الذي يلاطم زَبَدُهُ دوماً هذا الشطّ اللبنانيّ الطليعيّ في حنايا وطنه العربيّ الكبير. وفي القلب من هذه المعالم الدالّة على ثقافتنا الوطنيّة تنهض المجالس أو الندوات. ولقد عرف لبنان في عهده الاستقلاليّ محاولات شتّى لإنشاء المجالس الثقافيّة؛ إلاّ أنّ هناك منائرَ ثلاثاً باتت جزءاً عُضويّاً من تاريخ الثقافة الوطنيّة في بلدنا، وهي: الندوة اللبنانيّة، التي أسّسها وأدارها وأشرف على منشوراتها: ميشال أسمر، وذلك قُرابة ربع قرنٍ، من مطلع الخمسينيّات من القرن المنصرم حتّى بوّابة الحرب الأهليّة. وكانت نشاطات الندوة اللبنانيّة تُعقد في قاعة وزارة التربية الوطنيّة الواقعة على مقربة من ساحة الشهداء. ووقف إبّان الخمسينيّات، على مِنصّة هذه القاعة، الشاعر التركيّ الشهير، ناظم حكمت، بقامته السامقة، وألقى باللغة التركيّة قصيدة عن البحر والبحّار، ولا يزال هدير صوته المنفعل الهائج يضجّ في مَسْمعي. وهناك، فضلاً عن الندوة اللبنانيّة، المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ الذي انقضى نصف قرنٍ على نشوئه، ومسيرته حاشدة بمئات الباحثين والمبدعين، وأَبحاثهم ومحاضراتهم مرجِع ثمين يضمّ الهموم والهواجس والآراء التي اعتملت في صدور المثقّفين اللبنانيّين. وهناك أخيراً الحركة الثقافيّة ـ إنطلياس، فإنّ مهرجاناتها السنويّة، احتفاءً بالكتاب والكتّاب، باتت عيداً باهراً، وهي طوت هذه السنة، 2014، سنتها الثالثة والثلاثين.Dr. Ahmad Olabi-oumayma alkhali&habib sadekl (1)

حبيب صادق

وللسفينة رُبّانها، ولهذا المجلس الثقافيّ نُوْتيُّه الفارع. ولقد عرفتُ هذا الإنسان المرهف وعمِلت بمعيّته عندما كنتُ، بعدُ، فَرْخاً طامحاً دون العشرين. كان حبيب شابّاً ريفيّاً هادئاً غُرانِقاً، يكبُرني بسنوات معدودات. واشتغلنا سويّة في دار المعجم العربيّ، وحملت هذا الاسم لأنّها أصدرت “المعجم” للشيخ عبدالله العلايلي عام 1954. كما كانت داراً لبنانيّة طليعيّة، صدر عنها باكراً كمٌّ لطيف من الكتب التقدّميّة الرائدة. وكان المشرف على هذه الدار المناضل سهيل يموت؛ وهو الذي أصدر، عهدذاك، في التاريخ المذكور منذ هنيهة، جريدة “الأخبار”، وكانت في حجمها الحاليّ، ولم يكن هذا الحجم مألوفاً بعدُ في الصِّحافة اللبنانيّة. وفي “الأخبار” التقيتُ حبيب صادق، وانخرطنا في ورشتها الصِّحافيّة التي كان مقرّها دار المعجم العربيّ. وكانت هذه الدار واقعة على مقربة من ساحة البرج، بجانب سينما غومون بالاس. وخلال صيف 54 أصدرنا حوالى عَشَرَةِ أَعدادٍ من “الأخبار”، وكانت في ثماني صَفَحات، وهي أسبوعيّة. وأَذكر أنّ أحد الأَعداد جرت إعادة طبعه، لأنّ الصديق الحميم، محمّد عيتاني، هاجم في مقاله بالعدد كمال جنبلاط، ولم يكن الهجوم غريباً على طبع أبي حسن، ثم رؤي أنّ هذا الموقف مُضرّ سياسيّاً. ولم يطل الوقت حتّى انتقلت “الأخبار” إلى أَحضان الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ، الذي فَقَدَ جريدته “الصرخة” لصاحبها أحمد زكي الأفيوني، فاستعاض عنها بجريدة “الأخبار”.

ويا عزيزي، أستميحك الإذن في التوسّل بهذه الصيغة، فقد باتت من ممتلكاتك ومحطّةً أثيرة في مجرى لفظك المتأنّي المتهادي، لكأنّه هودجُ كلامٍ. عصافير الذاكرة تردّني إليك، ولن أَستفيض ههنا في استنطاق ساقية الذكريات. أنت، يا حبيب، مِفْضال علينا جميعاً، فمنذ نصف قرنٍ وأنت تدأب ليلَ نهارَ في رعاية كتاباتنا ونشاطاتنا الثقافيّة والوطنيّة. ومَنْ جرّب السعي لإقامة ندوةٍ أو نشاط ثقافيّ أو معرِض فنّيّ يتحقّق بالملموس أيَّ ضنًى سيكابد وأيَّ احتراق ٍ للأَعصاب سيواجه. وأنت، يا عزيزي، طَوَالَ عقودٍ خمسةٍ غارق في هذه المعمعة، لا يندّ عنك تأوُّهٌ ولا يخالطك تأفُّفٌ. صموتٌ هذا الإنسان المتفرّد، صلاته عمل، وكدّه عبادة، ومتعته إنجاز. لقد قرّ في أَعماقه فحوى المَثَل الإنكليزيّ من “أنّ الله يمنحنا اليدين، ولكنّه لا يبني لنا الجسور”. فأخونا حبيب بنّاء عظيم لا يلين، وفضيلته أنّه يُبرز الآخرين ويتوارى، يدفع بالجميع إلى مِنصّة القول والخَطَابة ويقتعد صفوف النظّارة.

فيا حبيب صادق الشاعر، ويا حبيب صادق الأديب، ويا حبيب صادق الباحث والناشط الثقافيّ والسياسيّ الجَسُور، والقامة الواقفة أبداً، أمضيتَ سحابة عمرك المِخْصاب وأنت تكرّمنا، فمتى يئين الأوان لننهض في سبيل تكريمك؟ وأنت الإنسان المحبّ، وأنت الإنسان الودود الذي يحمل اسمه بجدارةٍ: فهو الحبيب الوفيّ وهو الصادق الأمين. الحبّ كلّه للجنوب، والأمل كلّه لمجلسه الأنيس، والشكر كلّه لإصغائكم.

*********

نشر بالاشتراك مع موقع  aleph- lam

www.georgetraboulsi.wordpress.com

كلام الصور

1- شعار”المجلس الثقافيّ”

2- د. أَحـمـد عُـلَـبـي

3- رئيس “المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ” الأديب حبيب صادق يتسلم درعا تكريمية من الفنانة أميمة الخليل في مناسبة الإحتفال باليوبيل الذهبي

اترك رد