الوزير السابق جورج سكاف (نائب نقيب الصحافة اللبنانية)
ماذا بقي من الدولة اللبنانية بعد التمديد المطعون في شرعيته لمجلس نيابي لا يستطيع توفير النصاب القانوني لإنتخاب رئيس للجمهورية، ولا عقد جلسات تشريعية تمكن حكومة المصلحة الوطنية من تأدية واجباتها الحياتية، وقد صارت الدولة جمهورية من دون رأس رمز وحدة الوطن، ومن دون أي سلطة تشريعية في مجلس يقاطع نصفه النصف الآخر فلا يكتمل فيه نصاب الثلثين لانتخاب رئيس الدولة ولا نصاب النصف لاقرار مشاريع تصريف الأعمال الحكومية. كما ان حكومة المصلحة الوطنية التي فرضت على نفسها أن تكون وفاقية بامتياز أعطت بعضها أن يعطل كلها، ويكفي اعتراض وزير أو تغيب آخر، ليقف مجلس الوزراء عاجزاً كسلطة تنفيذية عن اتخاذ أي قرار و كسلطة اجرائية تقوم مقام رئاسة الجمهورية عن اصدار ونشر أي مرسوم.
هذا الشلل في المؤسسات الدستورية بات يشكل خطراً على الدولة ككيان حي له سلطاته المتكاملة تتجدد بصورة طبيعية في أوانه المحددة! وبطرق دستورية سليمة، وأخطر ما نواجهه اليوم، بعد الفراغ الكامل في رئاسة الجمهورية والعجز أو التعثر المتزايد في السلطتين التشريعية والتنفيذية، اننا مقبلون على فراغ في «مصدر السلطات» فيلجأ المجلس الممدد لذاته، بطريقة غير شرعية كما يقول الرئيس حسين الحسيني الذي كان بالفعل رئيساً للمجلس النيابي، لا رئيس مجلس بعلبك الهرمل، ويمدد مجلس سيد نفسه لنفسه ولاية جديدة، فيبقي المجلس والحكومة على ما هما عليه وفيه من عجز ومن شلل.
الأمل في الحكومة التي جيء بها لملء فراغ السلطة بفراغ في السلطة، أن تتحول إلى عوامة تنقذ ما يمكن انقاذه من غرق سفينة الدولة، فتتحول إلى سلطة انتقالية بتفويض تشريعي محدد يوفر لها سير العمل في المؤسسات الرسمية، وانجاز وضع قانون جديد للإنتخابات بعد اعادة النظر في التقسيم الاداري، يحقق وفقاً لوثيقة الوفاق الوطني تمثيل الشعب تمثيلاً صحيحاً، فيكون الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية، في نظام يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات … ويعتبر كل اللبنانيين سواء لدى القانون ويتمتعون على السواء بالحقوق المدنية والسياسية.
حددت وثيقة الوفاق الوطني الاهداف الأساسية والملزمة لقانون الانتخاب بوجوب: ضمان العيش المشترك، وصحة التمثيل السياسي لشتى فئات الشعب وأجياله، وفعالية التمثيل مع المحافظة على وحدة الأرض والشعب والمؤسسات. وصولاً إلى قانون خارج القيد الطائفي.
في سبيل ذلك توصلت الهيئة الوطنية الخاصة بقانون الانتخابات، التي أنشئت بقرار من مجلس الوزراء بتاريخ 8/8/2005، إلى صيغة انتقالية تعتمد «قواعد مستمدة من مقدمة ونصوص الدستور ومعايير سياسية ذات طابع مبدئي «فتعاملت مع المسألة الطائفية» من ضمن اطار المادة 24 والمادة 95 من الدستور بمعنى أن لا يشكل هذا المشروع عقبة في سبيل تحقيق هدف إلغاء الطائفية على مراحل .. والحرص على الحؤول دون خطر الطغيان العددي لأي مجموعة من المجموعات اللبنانية على أخرى…».
وأوصت الهيئة الوطنية الخاصة بقانون الانتخابات النيابية «بتأمين حسن تطبيق مبدأ الحياد والنزاهة في اجراء الانتخابات وابعاد العملية الانتخابية عن نفوذ السلطة السياسية بانشاء «الهيئة الوطنية للانتخابات» وهي هيئة إدارية ذات صفة قضائية. كما تناولت بدقة نظام الاقتراع والأعمال التحضيرية، وعملية اقتراع المقيمين على الأراضي اللبنانية وغير المقيمين، وعمليات الفرز وإعلان النتائج.
اعتبر الدستور إن الغاية من قانون الانتخاب هو أن يكون خارج القيد الطائفي، فإلغاء الطائفية السياسية هو هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية، وفرض على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين أن يتخذ الاجراءات الملائمة لتحقيق هذا الهدف، ومنها الغاء قاعدة االتمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والمؤسسات العامة والمختلطة والمصالح المستقلة ومنها ايضا، وبخاصة، إلغاء ذكر الطائفة والمذهب في بطاقة الهوية.
العمل الوطني يقوم إذن على وضع مشروع قانون مدني للانتخابات خارج القيد الطائفي وتكون البداية في الاعتراف أولاً بوجود طائفة غير طائفية مدنية تمثل كل الذين لا يرغبون بالانتماء إلى طائفة دينية معينة، ويرغبون في الغاء ذكر الطائفة أو المذهب في بطاقة الهوية. وتضم أيضاً كل الذين تزوجوا زواجاً مدنياً، خارج لبنان واعترف به وسجل في دوائر النفوس اللبنانية، وعددهم يزداد بالآلاف سنة بعد سنة. وكذلك الذين نالوا جنسية ثانية غير جنسيتهم اللبنانية فأصبحوا مدنيين، غير طائفيين في بلدان انتسابهم بينما ظلوا طائفيين، رغماً عنهم، في بلد نشأتهم، وهم بمئات الآلاف.
هؤلاء هم عملياً، وبملء إرادتهم، نواة الدولة المدنية الذين نص الدستور على ضرورة وضع قانون انتخابي جديد لهم خارج القيد الطائفي، ومن حقهم أن ينتخبوا في المجلس المقبل، نسبياً على أساس النظام الأكثري المعتمد حالياً، وبالاقتراع الاسمي، أي بالتصويت لمرشح واحد، دون أي اعتبار للجنس أو الطائفة أو سواهما.
وسواء بقي عدد المحافظات على ما كان عليه أساساً، أو اعتمدت المحافظات المستحدثة ولم تصبح محافظات بالفعل، فان اي تقسيم جديد يجب أن يعتمد «المعيار الواحد» في كل المناطق، وقد اقترح وزير سابق للداخلية أثناء درس موضوع تقسيم الدوائر الانتخابية تقسيم كل محافظة إلى دائرتين أو إلى ثلاث.
اذا تمكنت حكومة المصلحة الوطنية من وضع قانون جديد للانتخابات يعيد بناء لبنان دولة مدنية ديمقراطية، تحترم الفصل بين السلطات مع تعاونها وتوازنها، وتفصل بين الدين والدولة مع الاحترام لكل الرسالات السماوية وكل الأديان والطوائف والمذاهب، وتعزيز المناطق والكفاءات باعتماد لامركزية انمائية، وتحرير الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والمصالح العامة من قواعد التمثيل الطائفي باعتماد الكفاءة والاختصاص. تكون قد أفادت البلاد من الشلل في المؤسسات المهترئة بإعادة بنائها على أسس سليمة لدولة عصرية مدنية ديمقراطية، انطلاقاً من قانون للانتخابات يحرر الناخب من المحادل والبوسطات فيستعيد صوته قيمته المعنوية والفعلية بانتخاب الاصلح لشخصه المستقل لا لتبعية اقطاعية أو قبلية أو عشائرية أو طائفية أو مناطقية، ويحظى النائب بقوة شخصية مستقلة، فلا يفوز على لائحة هذا او بأصوات ذلك، ويكون تابعاً له، بل بأصوات ينالها لشخصه وباسمه.
عندها يصبح لبنان جمهورية ديمقراطية مستقلة، وجمهورية مواطنين أحرار.
**********
(*) جريدة اللواء- الثلاثاء,15 يوليو 2014 الموافق 17 رمضان 1435هـ