جودت هوشيار: الإعلام مهنة وأخلاق يمارسها الإعلامي

حاوره: د. خالد ممدوح العزي

التشريعات والقواعد بالأساس تعتمد على تعريفات قديمة لم تغب يوما عن الوسائل الإعلامية الكلاسيكية لتكون الأخلاق والآداب والضمير والرقابة الذاتية أساس تصرفات khaled mamdouh el ezziالإعلامي والمؤسسات الإعلامية نفسها. ومن هنا تكمن أهمية البحث والوصول إلى قواعد تحددها سلوكية وأخلاقية عالمية ترسم طبيعة مسلك الإعلامي في ممارسة المهنة وهذه القوانين ربما تكون “سيف ذو حدين” تحمي الإعلامي من الوقوع في أخطاء المهنة التي يدفع ثمنها غاليا، وكذلك حماية الحرية الشخصية للناس من استخدامها كمادة للنشر من قبل الإعلاميين، ولذلك الإعلامي، في أشكاله وإشكالياته ومواثيقه.

عن هذه الأخلاق التي تفرض خارطة طريق لكل الإعلاميين والمؤسسات الإعلامية بمختلف لغاتها وقوميتها ومذاهبها، تربطها جميعاً مفهوم المهنية والإعلامية وأخلاق الإعلامي الشخصية في ممارسة المهنة، يحدثنا عن هذا الموضوع في حوار صريح الكاتب والإعلامي الكردي جودت هوشار من العراق.

هلا تخبرنا عن جودت هوشيار؟

مهندس استشاري وكاتب وباحث عراقي، له عشرات البحوث والدراسات الفكرية والإعلامية والأدبية والسياسية المنشورة في المجلات والصحف العراقية والعربية.

أصدرت العديد من الكتب منها: “سيكولوجية الإبداع الروائي” وزارة الثقافة، بغداد، 1973″، “ذخائر التراث الكردي في خزائن بطرسبورغ “، أربيل، 2011.

من كتبي المخطوطة: “صحافة العصر الرقمي”، “القوة الناعمة”، “العراق في مفترق طرق”.

كيف تمارس مهنة الإعلام؟

أنا كاتب حر ومستقل، متعدد الاهتمامات. أكتب عن كل ما هو جديد في الفكر المعاصر عموما وفي مجال الإعلام خصوصا وله علاقة مباشرة بحياتنا وثقافتنا ومستقبلنا .

ماذا يعني الإعلام حاليا بعد الطفرة التكنولوجية الحديثة؟

بقدر تعلق الأمر بالأعلام، نحن نعيش اليوم ثورة معلوماتية جديدة، تتداخل فيها معظم وسائل الأعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، حيث تتنافس هذه الوسائل في ما بينها من جهة وتكمل الواحدة منها الأخرى من جهة ثانية. ولكن الطفرة التكنولوجية ـ واعتقد انك تقصد بذلك الثورة المعلوماتية تحديداً – لا تقتصر على وسائل الأعلام، بل تشمل أيضاً، تبادل المعلومات بين الإنسان والآلة وبين الآلات نفسها .

كيف تصف لنا حالة الإعلام في العراق؟

بعد عقود من قمع حرية التعبير وتحويل وسائل الأعلام إلى أبواق لتمجيد (القائد الضرورة) والدعاية للحزب الحاكم، ظهرت إلى الوجود بعد “التغيير” عشرات الصحف اليومية والأسبوعية وقنوات التلفزة المحلية والفضائية ومحطات الإذاعة الأهلية “الخاصة” وشبه الحكومية، حتى بات البعض يتحدث عن الفوضى الإعلامية أو الانفلات الأعلامي. وأرجو أن لا يتبادر إلى الذهن، أن ذلك ظاهرة صحية أو دليل على وجود حرية التعبير، لأن الأغلبية الساحقة من وسائل الأعلام في عراق اليوم مؤدلجة ومتحزبة أو ممولة سراً من قبل السلطة، ومجندة للترويج لسياساتها. والعديد منها تتلقى تمويلا خارجياً من منظمات مشبوهة. ولا وجود لحرية الرأي والتعبير، إلا في أضيق الحدود.

والى جانب هذه الجوقة الإعلامية الطائفية الجاهلة، التي لا تفقه شيئا في أساسيات العمل الصحافي، ثمة إعلام ليبرالي ناضج ورصين ، يعمل فيه إعلاميون شجعان يؤدون واجبهم المهني بصدق وأمانة وشرف ، ولكن نظام الجهل المعمم يحاول التضييق عليه وخنقه بكل الوسائل المتاحة.hoshyiar

ويعرف القاصي والداني أن العراق من أخطر البلدان بالنسبة إلى الإعلاميين. والخطر المحدق بهم، ليس مصدره الإرهاب الأعمى فحسب، بل، السلطة المستبدة، التي تحارب الإعلام الليبرالي المهني، بسبب دوره الفعال في الكشف عن قضايا الفساد السياسي والمالي والإداري.

ورغم كل هذا فإن الأصوات الإعلامية الحرة، على قلتها، أخذت شيئاً فشيئاً تستحوذ على اهتمام الجمهور العراقي، ولعل خير دليل على ذلك، أن أي فضائية عراقية تتبني المطالب الشعبية تقفز خلال أيام الى القمة في نسبة المشاهدة، بمعني أن الشعب العراقي لم يعد يصدق الإعلام العراقي المؤدلج ـ بشقيه الحكومي والخاص – ويتطلع لمعرفة الحقيقة من الإعلام الحر.. وهذا دليل على وعي الشعب العراقي.

أين يتموضع الإعلام العراقي بظل الانقسام الأفقي والمناطقي للشعب العراقي؟

لا توجد في العراق اليوم دولة بالمفهوم الحقيقي لهذا المصطلح ، بل سلطة متخلفة وجاهلة، تتاجر بالدين، ولا تستطيع البقاء في الحكم، إلا بتأجيج النعرة الطائفية وافتعال الأزمات لإلهاء الشعب عن معاناته القاسية، كما أن أحزاب الإسلام السياسي الأخرى، المشاركة في الحكم شكلياً، لا تقل عن حزب الدعوة الحاكم في عمل كل ما من شأنه تعميق الانقسام الطائفي. ولا أدل على ذلك من أن أوصال العاصمة بغداد مقطعة اليوم إلى (غيتوات) حسب التقسيم المذهبي.

الإعلام الطائفي الهابط والرخيص، بات أحد أهم أدوات الصراع السياسي على السلطة والنفوذ والمال، ويسهم من دون أي وازع مهني وأخلاقي في تعميق الانقسام المذهبي والمناطقي في البلاد.

أخبرنا عن الإعلام الكردي؟

الأوضاع العامة في إقليم كردستان مختلفة تماما عن بقية أجزاء العراق، فهناك طفرة عمرانية وخدمية وإدارة مدنية وإعلام أكثر مهنية، قياساً ببقية أجزاء العراق. ويمكن ملاحظة أربعة اتجاهات في الإعلام الكردي:

الإعلام الحزبي وشبه الرسمي لحزبي السلطة، وهو إعلام رصين ينقل ما يحدث في المجتمع أولا بأول ويعكس الأضواء على ما يعانيه من وجهة نظر الحزبين بطبيعة الحال. ولا يرحب كثيراً بالرأي الآخر وخاصة في القضايا السياسية الحساسة.

إعلام حركة التغيير (حزب المعارضة الرئيس في الإقليم)، ومما يؤخذ على إعلام الحركة أنه يركز كثيرا على مظاهر الخلل والضعف في الأداء الحكومي، من دون التعمق في دراسة تلك المظاهر وتقديم معالجات حقيقية لها. إعلام لا يرى سوى السلبيات ولا يتحدث قط عن أي انجاز حكومي. إنه بهذه النظرة الأحادية يضعف كثيرا من تأثيره على الرأي العام.

الإعلام السلفي المؤدلج – للأحزاب الدينية المعارضة ـ وهو إعلام متخلف ومنحاز، يشوه الحقائق ويحرف الأخبار ويركز على السلبيات التي لا يخلو منه أي مجتمع من المجتمعات، والأخطر من ذلك كله أنه إعلام تحريضي، يمجد الإرهاب باسم الجهاد، ويكفي القول إن بعض الشباب الكرد المنتمين أو المتعاطفين مع تلك الأحزاب التحق بالجماعات التكفيرية التي تقتل أبناء جلدتهم كرد سوريا. وأرى أن هذه الأحزاب وإعلامها التحريضي خطر على حاضر ومستقبل الشعب الكردي.

الأعلام الأهلي أو الخاص أو بتعبير أكثر دقة “الإعلام التجاري”، الذي يدعي الاستقلالية، ولكن القسم الأكبر منه مرتبط بالأحزاب السياسية بشكل أو بآخر. وهو إعلام يعتمد الأخبار المجهلة والعناوين المضللة والصارخة والتركيز على الفضائح الحقيقية والموهومة والتابوهات الاجتماعية وخاصة الجنس بصوره المختلفة. ويعمل فيه مئات الإعلاميين، الذين اتخذوا من الإعلام مصدر رزق من دون أن يمتلكوا الحد الأدنى من المؤهلات المطلوبة للعمل في هذا المجال الحيوي.

ما أهمية الإعلام الكردي في دول انتشار الكرد؟

الإعلام الكردي في دول (التقسيم) الأخرى ما عدا العراق، محدود التأثير نظراً لتضييق الخناق عليه، في كل من تركيا وإيران، أو محلي كما في سوريا على عكس الإعلام الكردي في كردستان العراق، الذي يمارس دورا كبيرا وتأثيرا هائلا على الكرد في بقية أجزاء كردستان. وثمة أيضاً إعلام قوي لحزب العمال الكردستاني في الدول الأوروبية على وجه الخصوص. إضافة إلى الإعلام الكردي في جمهوريات ما وراء القفقاس، وهو إعلام ثقافي في المقام الأول .

كيف تعيش الصحافة الكردية اليوم على المفهوم القومي أو المهني؟

منذ التقسيم الأول لكردستان بين الدولتين العثمانية والفارسية بموجب اتفاقية “جالديران” عام 1514 ومن ثم التقسيم الثاني بعد الحرب العالمية الأولي إلى أربعة أجزاء بموجب اتفاقية “سايكس – بيكو”، وحتى يومنا هذا، قدم الكرد تضحيات سخية للغاية، ربما لم يقدمها أي شعب آخر في العالم، لذا من الطبيعي والبديهي أن يعمل الكرد اليوم على تعزيز وإبراز هويتهم القومية، التي حاول أعداؤهم طمسها، والصحافة الكردية تسهم بقسط وافر في التركيز على القضايا القومية الملحة ودعم نضال الشعب الكردي في أجزاء كردستان الأخرى.، وأرجو أن لا يذهب الظن بالبعض إلى المقارنة بين الاتجاه القومي العربي الشوفييني وبين الطابع القومي للحركة التحررية الكردية، ذلك لأن الكرد كانوا ضحية الشوفينية العربية والتركية والفارسية ولا توجد لهم، لحد الآن، دولة تجمع شملهم وتضمن حقوقهم، في حين أن للعرب اثنين وعشرين دولة، ورغم أن الاتجاه القومي هو الغالب على الإعلام الكردي عموماً، ولكنه من دون أدنى شك أكثر مهنية ومصداقية من الأعلام العراقي العربي.

تتوقف بكتابتك عن أخلاقيات المهنة الإعلامية لماذا؟

لأن ثمة ظاهرة واسعة للانتشار ـ مع شديد الأسف ـ في الأعلام العراقي الحالي، وهي ظاهرة الأخبار الملفقة والتشهير والتجريح بذريعة النقد، وهي أبعد ما تكون عن النقد النزيه البناء، ويكفي القارئ الكريم أن يشاهد فضائية عراقية، سواء تلك التي تبث من خارج العراق أو من داخله، ليتبين إلى أي حضيض انحدر الإعلام العراقي: مهاترات وتسقيط سياسي واتهامات متبادلة بين الساسة، ما أنزل الله بها من سلطان. وهذه نتيجة طبيعية للأوضاع العامة المتردية في العراق: إرهاب حكومي وميليشياوي وأجنبي أيضاً، وجرائم منظمة وتعاطي للمخدرات، والتدخل الفظ في أخص الأمور الشخصية، وفرض الحجاب بالقوة على النساء حتى على بنات في عمر الورود، والفصل بين الجنسين في المدارس وزواج المتعة والمسيار، وما الى ذلك من البدع التي هي علامات انحدار خلقي وسياسي والأبواق الإعلامية تروج لكل هذه الأمور بدلا من أن تحاربها.

في مقالك تتوقف أمام دور الصحافي والصحافة الصفراء هل هذا واقع العراق او المنطقة كلها؟

يرتبط ظهور الصحافة الصفراء في الغرب بمرحلة تاريخية معينة مع ظهور وتنامي الطبقتين المتوسطة والعاملة بعد الثورة الفرنسية. الموظف أو العامل العائد الى بيته بعد يوم عمل شاق ، كان يبحث عما يسليه ويرفه عنه ، وعلى هذه النحو أضيفت وظيفة جديدة الى الصحافة وهي وظيفة التسلية والترفيه ، وهذا لا يعني ان الثقافة الترفيهية لم تكن موجودة من قبل ولكنها كانت مخبأة في بطون الكتب.

الصحافة الصفراء صناعة غربية ، ولا توجد صحافة صفراء عربية ام كردية، بل صحافة تجارية تتسم ببعض العناصر “الصفراء”، وهي عناصر، تشكل توابل للصحافة المحلية الهابطة الخالية من أي مضمون ذي قيمة، وتجذب القارئ البسيط بصورها المثيرة ومانشيتاتها الصارخة. وحتى بعض المجلات التي تعنى بالجنس والتي ظهرت في السنوات الأخيرة في بعض البلدان العربية وفي إقليم كردستان أيضاً ، فإنها تجارة تهدف الى الربح عن طريق دغدغة الغرائز، قبل ان تكون صحافة صفراء بكل ما يعنيه هذا المصطلح، لأن تابوهات الحياة الشرقية والإسلامية، تحديداً، لا يترك مجالا واسعا لهذه الصحافة أن تأخذ مداها الواسع وتتحدث عن المغامرات الجنسية لنجوم المجتمع ، وتتلصص على حياتهم في خلواتهم الخاصة، وتتحول الى صناعة ذات شأن كما هو الحال في الغرب.

تصف المدونات بأنها السلطة الخامسة التي تراقب السلطة الرابعة وتعمل على تصحيح مسارها؟

الفرق بين الصحافة التقليدية وبين الصحافة الرقمية الجديدة ، هو أن الأولى صناعة يعمل فيها محترفون، أما الثانية فهي فضاء مفتوح لكل من يتعامل مع الكومبيوتر او الأجهزة اللوحية والذكية ولديه اتصال بالانترنت.

الصحافة الجديدة صحافة تفاعلية، وفضاء مفتوح للآراء الحرة العابرة للحدود. والمساهمون في هذا الفضاء الواسع أكثر عددا – من الصحافيين المحترفين على مستوى العالم- أضعافا مضاعفة. والناشطون منهم يشخصون مشاكل مجتمعاتهم ويراقبون أداء السلطات الأربع الأخرى وينتقدونها.

صحيح ان معظم هؤلاء النشطاء هواة متطوعون ولكن لهم تأثير عظيم على الرأي العام ويزداد هذا التأثير بمضي الزمن، وهم أسرع من الصحافة الورقية وحتى من الإذاعة والتلفزيون في نقل الأخبار والتقارير والصور ومقاطع الفيديو من مواقع الأحداث مباشرة، وقد كان لهؤلاء الناشطين فضل كبير في اندلاع ثورات الربيع العربي ، وحققوا نتائج تأريخية عظيمة عجزت عنها الصحافة التقليدية.

لماذا يتحول الصحافي في الدول العربية الى سياسي ويبتعد عن ممارسة مهنيته الإعلامية؟

لا يوجد صحافي محايد سياسياً تماما، حتي في الأنظمة الغربية الديمقراطية العريقة ، فالصحافي ، إذا كان يعالج قضايا سياسية ولا يكتب عن آخر فضائح نجوم السينما والمجتمع مثلا، فإن آراءه الشخصية لا بد أن تنعكس على كتاباته إلى هذا الحد أو ذاك . ولكن ثمة درجات من الابتعاد عن الموضوعية والانحياز السياسي . فالصحافي الغربي يخفي انحيازه بمهارة ويبدو مقنعاً في معالجاته الصحافية ، ثم إن هذا الأخير يكسب الكثير من المال من مهنته وعالم الصحافة مفتوح أمامه، وليس مضطراً إلى مجاملة رئيسه في العمل ولا يخشى قطع رزقه بسبب آرائه ، كما هو الحال في العراق مثلاً.

السياسة في بلداننا لها علاقة مباشرة بحياة الصحافي ومستقبله ولا يمكن له، ان يتجاهل ما يحدث حوله من أحداث ساخنة وتطورات سياسية متلاحقة . وإضافة الى هذا الصنف من الصحافيين ، ثمة في العراق الخاضع لسلطة حزب الدعوة الحاكم عدد كبير من الطارئين على مهنة الصحافة ، وأصحاب الأقلام المأجورة، الذين لا يمتلكون ثقافة أو موهبة، وتحولوا الى أبواق للدجل والشعوذة وأدوات للمهاترات السياسية.

**************

(*) صحافي وباحث إعلامي، مختص بالإعلام السياسي والدعاية، خبير بالشؤون الروسية ،و العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، استاذ جامعي في لبنان .

اترك رد