الباحث خالد غزال
طرح انتشار الحركات الإسلامية وطبيعة ممارستها السياسية مسألة جوهرية تتصل بالمنظومة الفكرية التي ترشد الإسلام السياسي في ممارسته، سواء أكانت ذات طابع سلمي أو عنفي، وخصوصاً مسألة الإرهاب الذي صبغ معظم تيارات هذا الإسلام منذ عدة سنوات. يذهب جميع منظري الإسلام السياسي في طرحهم وممارستهم إلى القول بأنّ الإسلام بفكره وتوجيهاته هو مرجعهم، وأنّ ممارستهم تصبّ في هدف تحقيق ما يدعو الإسلام إليه، وتكريس نصوصه قوانين، على البشر الإلتزام بها.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه منذ عقود يتصل بالإسلام نفسه الذي يقول به الإسلام السياسي، هل هو إسلام النص القرآني، وبالتالي كيف نقرأ هذا النص بعد أن تعددت التأويلات حول سوره وآياته؟ أم هو إسلام ما يعرف بالسنة المتصلة بأحاديث النبي وأقوال الائمة؟ أم هو إسلام الفقهاء التي فاقت اجتهاداتهم الحدود ولم يتركوا باباً غير ديني إلاّ وولجوه وألبسوه برقعاً مقدساً؟ أم هو إسلام التاريخ المتعدد والمختلف بين مرحلة زمنية وأخرى والمتصل بالأمكنة التي دخلها الإسلام وكيفية هذا الدخول، مما يطرح أسئلة حول علاقة كل مرحلة تاريخية بالواقع الراهن ومدى جواز إسقاط أفكار وأحكام تتصل بزمان معين ومكان محدد عل الواقع الراهن؟ أي المطروح اليوم فعلاً استحضار المشترك في مرجعيات الإسلام السياسي وإخضاعها للنقد وتفنيد التبريرات التي يستند إليها هذا الإسلام في إعطاء المشروعية لأعماله الإرهابية التي تكاد تحتل موقع الصدارة في فكر وممارسة تنظيمات وأحزاب هذا التيار. من الأعمال الحديثة التي ظهرت راصدة لهذه المرجيعات كتاب الدكتور عبد المجيد الشرفي “مرجعيات الإسلام السياسي” الصادر عن “دار التنوير” في بيروت.
يعود ارتباط الإسلام بالسياسة إلى مرحلة النشوء والتوسع منذ عهد النبي وتباعاً في كل مراحل تطوره. الأمر الأقل شأناً كان تداخل الإسلام مع المجتمعات التي دخلها وتكيّفه مع قوانينها وثقافتها أو ما أدخل عليها من الجديد الذي أتى به. لكن مسألة الإسلام واستخدامه في السياسة كانت هي الحلقة المركزية الخطرة التي صبغت الإسلام كدين طوال مراحل تطوره، وهي قضية ظهرت منذ اليوم الأول لوفاة الرسول حين اندلع الصراع على السلطة، حيث بدأت أولى مراحل استخدام النص الديني من قرآن وأحاديث لترجيح نظرة هذه الفئة او تلك. وتوسع هذا الاستخدام في الصراعات اللاحقة بين المذاهب والطوائف الإسلامية خصوصاً منها الصراع المتواصل بين معاوية وعلي بن أبي طالب، حيث شكل النص المقدس عنصراً مقررًا في مسار الصراع. وكان لا بد من وجود فقهاء ومجتهدين يحتاجهم الحاكم لإعطاء مشروعية لسلطته ولتبرير قراراته وإلباسها لبوساً دينياً متسماً بالقداسة. وبمقدار ما كان الحاكم بحاجة إلى هؤلاء الفقهاء والعلماء والمجتهدين، كان هؤلاء بحاجة أيضاً إلى السلطة السياسية لتمكينهم من الهيمنة على المجتمع وفئاته عبر نشر ثقافة دينية وفق المنظور الذي ينطلقون منه.
يرى الشرفي أنّ الإسلام السياسي في شكله الحديث يعود إلى تأسيس حركة الإخوان المسلمين في مصر على يد حسن البنا عام 1928. هذه الحركة هي التي ولدت من رحمها سائر حركات الإسلام السياسي لاحقاً. تأسست حركة الإخوان بداية، ونظرياً، جواباً عن إلغاء مصطفى كمال للخلافة في تركيا، هذه الخلافة كانت ترمز في الوجدان الديني إلى دولة المسلمين، رغم أنّ وقائعها وممارستها لم تكن تمت بأي صلة لدولة إسلامية دينية لا وجود لها سوى في الخيال. لكنّ حركات الإسلام السياسي شهدت ازدهارها في معظم العالم العربي نتيجة لعوامل متعددة، لعل أبرزها فشل مشروع النهضة العربية التي مثلتها حركة القومية العربية وخصوصاً منها المشروع الناصري، والذي شهد أبرز تجليات فشله في هزيمة حزيران 1967. هذه الهزيمة لم تكن هزيمة عسكرية فقط، بل كانت هزيمة مشروع حضاري على جميع المستويات، توّج فشلاً لأنظمة الإستقلال في تحسين مستوى معيشة المواطن العربي، وفشل مشاريع التنمية الاقتصادية، إضافة إلى الهيمنة والتسلط الذي مارسته الأنظمة الحاكمة وكرست فيه ديكتاتوريات لا حدود لمستوى القمع الذي فرضته. قدمت الهزيمة العربية المتعددة المستويات المبرر ليطرح الإسلام السياسي مشروعه البديل القائم على نظرية “الإسلام هو الحل”، مقترنا يرؤيا سياسية وأيديولوجية ترى أنّ أسباب هزيمة العرب والمسلمين إنما تعود إلى تخليهم عن الإسلام وعن الإلتزام بمقوماته، ونتيجة أيضاً لاعتماد نظرية الدولة الحديثة ودساتيرها. استقطب الإسلام السياسي جماهير واسعة خصوصاً من أجيال شابة لم تقدم لها الأنظمة القائمة سوى البطالة والفقر والتهميش وما يرافقها من يأس وإحباط، فرأت في شعار الإسلام السياسي منارة الخلاص وحلاً لمشاكلها.
قام مشروع الإسلام السياسي منذ البداية على هدف الوصول إلى السلطة، ولم يكن ما يمنع لديه من استخدام الديمقراطية بمضمونها القائم على صندوق الإنتخاب، وسيلة لاستلام السلطة، حيث تتوقف هذه الديمقراطية عند هذه الحدود وتلغى مفاعيلها مستقبلاً، باعتبار أنّ وصول الإسلام السياسي إلى السلطة يشكل “نهاية التاريخ” واكتمال الإسلام ديناً ودنيا. في كل الأدبيات التي صدرت وتصدر عن الإسلام السياسي، يقوم قاسم مشترك يتعلق برفض منطق الحداثة والتقدم الذي يفرض نفسه على المجتمعات البشرية بحكم الحاجة إلى التطور، ويسود خطاب ذا مرجعية تعود إلى مئات السنين التي خلت، وتسقط خلالها أحكام واجتهادات فقهاء، قد تكون متناسبة في زمنها مع درجة تطور هذه المجتمعات. لا يكتسب التاريخ أهمية عند مفكري الإسلام السياسي، ولا يجدون مبررًا لوضع فقه جديد يتناسب مع حال العصر الذي نعيش فيه، لذا يكبّل الماضي الحاضر لديهم بقيود حديدية، بحيث تستعاد أحاديث وأحكام من هذا الماضي ويجري إسقاطها على الحاضر والطلب إلى المسلمين التزامها في وصفها التمثيل الصحيح للإسلام.
لا شك أنّ بنى المجتمعات العربية التي لا تزال تتغلّب فيها البنى التقليدية القائمة على العصبيات، مقترنة بفشل مشروع الحداثة خصوصاً في جانبه الفكري التنويري، قد شكل عنصرًا مؤثرًا وفاعلا في اكتساح منظومات الإسلام السياسي الفكرية، وفرض نفسها في أوساط واسعة من شعوب المجتمعات العربية. في الوقت نفسه، لا بد من رؤية التناقض في المنظومة الفكرية لهذا الإسلام، بالنظرإلى التشققات التي أصابته في سياق الصراع على السلطة وتكوّن الفرق، بحيث بات الإسلام مجموعة إسلامات تتناسل من بعضها البعض وتتوالد تنظيماتها كالفطر، خصوصاً في السنوات الأخيرة، مما جعل المرجعية الفكرية المقبولة من جميع التنظيمات، مرجعية مشكوك في شموليتها، وهو ما سمح بظهور اجتهادات متعددة تتصل بكل مجموعة لها منظومتها. لكنّ أهم ما يجمع هذه لتنظيمات ومنظوماتها هي رفض بعضها للبعض الآخر، بكل ما يعنيه ذلك من تكفير وتخوين يترجم نفسه بتصفيات دموية بين بعضها البعض.
تمثل كتابات الإمام الشافعي مرجعاً أساسياً في المنظومة الأيديولجية للإسلام السياسي، وهو الذي جعل الأحكام الفقهية تعلو أحياناً كثيرة النص المقدس، بحيث بات الاستشهاد بكتاباته المصدر الأول للتشريع. فمقولة “أنّ كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم” قطرت آراء الفقهاء فاستخدموها في كل صغيرة وكبيرة، خصوصاً أنّ هؤلاء الفقهاء كانوا يعتبرون أنفسهم مستبطنين لحكم إلهي ديني وليس كمجتهدين في تعيين دلالات النصوص، واستندت السلطات إلى اجتهادات هؤلاء الفقهاء لنيل المشروعية والتثبيت. يقول الشرفي تفسيرًا لمقولات الشافعي:“إنّ كل فعل من أفعال المسلمين، في أي مجال، سواء الدينية أو السلوك العام أو الفردي، لا بد أن تخضع لحكم من الأحكام الفقهية..
إنّ أحكام الشريعة، في الحقيقة، هي الخضوع لحكم من الأحكام الفقهية، أي رفض أن يكون الإنسان مسؤولاً عن التشريع”. وعلى رغم أنّ الإسلام السياسي يعتبر أنّ مرجعيته تستند إلى القرآن والحديث، إلاّ أنّ الغالبية العظمى من أحكام الفقهاء تتجاهل النص القرآني وتبني أحكامها على الأحاديث النبوية التي سبق للشافعي أن وضعها في مصاف النص القرآني.
تطرح مسألة اعتماد الحديث مرجعية رئيسية في اصدار الاجتهادات والأحكام، مشكلات كثيرة. فبالإضافة إلى أنّ الأحاديث متصلة بظروف إطلاقها والحاجات التي كانت تجيب عنها، وهي أمور مرتبطة بمكان وزمان محددين، فإن الأحاديث تطرح أكثر من علامة استفهام حول صحتها ووثوقيتها. لم يكتب الحديث زمن الرسول، بل كتب بعد أكثر من ماية وخمسين عاماً، ونقلا عن قيل وقال، وتجاوز عددها أحيانا مئات الآلاف لدى بعض الفقهاء والرواة. شكك كثير من الفقهاء أنفسهم في صحة أحاديث مروية ومكتوبة، مما يطعن في مصداقيتها كمرجع للتشريع. يضاف إلى كل ذلك ما هو معلوم في التاريخ الإسلامي من أن الأحاديث كانت تتواتر وتزدهر في سياق الصراع السياسي والاجتماعي بين الفرق والقبائل على السلطة، بحيث تستحضر كل قوة وطرف جملة أحاديث تدعم عبرها موقفها في وجه الخصم. كما أن المذاهب الأساسية التي انبثقت عن الصراعات والانشقاقات ترفض الإعتراف بأحاديث المذهب الآخر وتراها منحولة أو مزورة.
في ممارسة الإسلام السياسي على صعيد الحياة اليومية والقواعد الفقهية التي التزمها، يمكن مشاهدة اختلاف الاجتهادات بين مكان وآخر أو بين فقيه وآخر. وفي التدقيق بالكثير من الأحكام التي يفرض الفقهاء قدسيتها وينسبونها إلى جوهر الإسلام، يمكن ملاحظة ابتعاد عدد واسع منها عما يقول به النص القرآني، بل أن كثيرًا منها ينتسب إلى عادات وتقاليد وثقافات بعضها موروث من العصور المسماة جاهلية، وهي مستمرة في وصفها قواعد إسلامية. من الأمثلة القليلة عن منظومة الإسلام السياسي، قضية الموقف من المرأة التي يفترض أن تكون تابعة للرجل على رغم أنها قد تكون مناضلة ضمن الحركات الإسلامية مثلها مثل الرجل. أما الحجاب والخمار فليس له بالإسلام علاقة، سوى أنه بات رمزًا لهوية إسلامية في مضمونها السياسي وليس الديني، مع العلم أن هذا اللباس موروث عن لباس الراهبات في المسيحية، وهو تقليد اجتماعي ينتمي إلى عصور غابرة. كما انه في القديم كان الجلباب رمز المرأة الحرة المتميزة عن المرأة التي تباع وتشترى والمعروفة بتعبير “الأمة”. أما قضية الإرث والمساواة بين المرأة والرجل فلم يكن الإسلام هو الذي قرر هذا التمييز، بل أن جلّها موروث من العادات والتقاليد القبلية التي كانت سائدة قبل الإسلام. ناهيك عن رفض الفقهاء الاعتراف للمرأة بإمامة الصلاة التي كانت قائمة في القديم.
يبدو الاسلام السياسي مهووسا بالمرأة، ينظر إليها دوماً من موقع الدونية، يرى فيها مصدرًا للفتنة لا كائناً يملك الحقوق والواجبات المعطاة للرجل. المهر في الزواج ليس سوى “تكريس للقيم الأبوية والذكورية التي كانت موجودة في المجتمعات القديمة، مما جعل الفقهاء يعتبرون الزواج نوعاً من العقود التجارية، والمرأة كأنها تشترى وتباع”. ومن الأمور الشكلية التي يحولها الإسلام السياسي إلى ما يشبه المقدسات قضية اللحية لدى الرجل ووجوب عدم حلاقتها تمثلاً بالرسول الذي كان ملتحياً، وهو أمر يتجاهل انعدام وسائل الحلاقة في الزمن القديم، وكون اللحية موجودة لدى كل الرجال، ولدى كل الشعوب، في أزمان قديمة جدًا قبل الاسلام. ومن المسائل التي يجري الإحتيال في ممارستها قضية الفوائد البنكية التي يرى فيها منظرو الإسلام السياسي نوعاً من الربا المحرم. كل مدقق في ممارسات البنوك المدعاة أنها إسلامية، يلمس الطرق الملتوية وغير الشرعية التي تلجأ إليها البنوك لتحصيل الفوائد.
وفي قضية شرب الخمر التي يحرمها الفقهاء ويعتبرون شاربها مرتكباً للكبيرة التي تستوجب الجلد، فإن هذا التحريم لا وجود له في النص القرآني، وإنما هو من قبيل اجتهاد الفقهاء. فالتحريم في النص يطال الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير والقرابين للآلهة. وفي السياق نفسه يمكن المرور على مسائل الصلاة وعددها الذي ليس في النص ما يحددها بخمسة. أما في ما يخص الصوم، ففي القرآن نصوص واضحة على أنه يمكن للمسلمين أن لا يصوموا، وأن يتم التعويض عن ذلك بالصدقات وإطعام المساكين. كما أن الحج، الذي هو من موروث الجاهلية، والذي جعله الإسلام من القواعد الأساسية، هذا “الحج ليس مرتبطاً بيوم معين حسب القرآن.. يتشبث به الفقهاء من باب التقليد وعدم الجرأة على إعادة النظر في الموروث”.
تطرح المنظومة الفكرية للإسلام السياسي جملة إشكاليات، تفترض إعادة النظر في قيمها وأهدافها. يصر الإسلام السياسي على الإقامة في الماضي واعتبار ما أتى به هذا الماضي هو الصحيح الواجب التزامه راهناً. قد تكون أحكام السابقين مناسبة لظروف المجتمع وعاداته وتقاليده ودرجة تطوره، لكن الإسلام السياسي يقف على درجة من المعاداة الواسعة للتاريخ وللتطورالبشري، مما يجعله رافضاً لقيم الحداثة ولمنطق التقدم الذي تعرفه المجتمعات البشرية. قد يكون تقديس هذا الماضي وموروثاته من أكبرالعقبات في وجه التغيير، فإلباس تقاليد معينة ثوب الدين يجعل منها استعصاء على التغيير خصوصاً إذا ما كانت النظرة إلى الدين مشوهة بحيث لا تميز بين جوهر الدين المتصل بالأخلاق والروح الأخوية والتسامح ومحبة الآخر، وهي أمور يمكن القول أنها تتجاوز الزمان والمكان، وبين ما هو متصل بالحياة اليومية وحاجات المجتمعات إلى قوانين وأحكام، وهي من القضايا التي تتغير بتغير الظروف وزمانها ومكانها.
“ان عدم الوعي بالتغير الجذري الذي طرأ على مختلف نواحي الحياة، وبضرورة مواجهة الصعوبات الناشئة عنها، هو تعبير عن صعوبة حقيقية يجدها الإسلام السياسي، ومن ورائه الضمير الجمعي، في قبول ما لم تتعود عليه المجتمعات الإسلامية في تاريخها” على ما يقول الشرفي. لعل الأمر يعود، في حيز كبير منه، كما شأن الفكر الديني عموما، هو كون هذا الفكر قد ظهر في مرحلة من التاريخ القديم حيث لم تكن الحداثة ومقولاتها قد بزغت بعد، مما يجعله في صعوبة كبيرة للتأقلم مع الأوضاع التي فرضها التطور البشري على جميع المستويات، والتي جعلت العولمة من العالم كله “قرية صغيرة”، فاجتاحت قيمها ومنظوماتها المجتمعات من دون استئذان، ودخلت إلى “البيت الإسلامي” مزعزعة أركانه التقليدية الموروثة. دخلت المتظومة الفكرية للحداثة التي تعلي من شأن الفرد بوصفه شخصا قائما بذاته في تناقض مع منظومة المجتمعات التقليدية المستندة الى بنى القبيلة والعشيرة حيث تنعدم قيمة الفرد الحر بحكم الالتزام بالجماعة وقوانينها.
تقف حركات الإسلام السياسي اليوم على طرفي نقيض مع المعطيات الجديدة للمجتمعات التي تقيم فيها. يغلب عليها معاداتها للاجتهاد وللتحرر من المقولات الموروثة من عصور الانحطاط. يرمز موقفها من الإرهاب، فكرًا وممارسة، إلى إحدى المعضلات المستعصية. فهي تقرأ نصوص العنف والجهاد الواردة في النص الديني بمنطق الماضي الثابت غير الخاضع لرؤية الآيات في زمن نزولها ومكان استخدامها. هذا الإسقاط الحرفي للقراءة يجعلها ترى نفسها المدافع عن الإسلام والساعي الى تطبيق نصوصه وفق ما أتت به الرسالة. عندما يسود مثل هذا المنطق، ولا يتدخل الفقهاء والمؤسسات الدينية للجهر بتقادم هذه النصوص وعدم صلاحيتها للزمن الراهن، لكونهم يعتبرون القرآن نصاً محكماً صالحاً بمجمله لكل زمان ومكان، عندها ليس مستغرباً وبعيدًا عن الواقع اتهام الإسلام بتشجيع الإرهاب واحتضانه. وهل من مجال لاصلاح الإسلام السياسي ودخوله في العصر وابتعاده عن العنف إلا بانتاج ثقافة جديدة تتسم بصفات متعددة أبرزها “أن تكون ثقافة تاريخية، أي لا يتم فيها الإدلاء بمعلومات مفصولة عن الظروف التي أنتجتها والرهانات التي كانت موجودة والمعاني المخصوصة لها، وأن تكون ثقافة علمية تتقبل المعرفة الحديثة، وأن تكون ثقافة ديمقراطية”.
أثبت التاريخ سابقا، ويثبت كل يوم خطأ مقولة “أسلمة المجتمع”، فالذي يعتبره الإسلام السياسي خروجاً عن تعاليم الإسلام في مجمل النظر والممارسة في المجتمعات الإسلامية، إنّما هو في حقيقته المعضلات التي تواجه هذا الإسلام وتطرح عليه تحديات في مواكبة العصر الحديث بكل ما يثيره من مشكلات، لا مجال للإسلام السياسي إلا أن يقف أمامها والجواب عن الكثير منها، كشرط لانتسابه الى العصر.