الأديب مازن.ح. عبود
ما عساي أقول لك يا أمي؟؟
ما عساي أقول لك يا ملاكي؟؟ وقد أضحيت في الضفة الأخرى من نهر الحياة، هناك حيث تقيم حوّاء أمك وحبقوق والدك وعمك وأخوك وكل أهل حارتك وبيتك ممن أحببت. أضحيت هناك وأنت لا تفارقين من هم هنا.
ما عساي أقول لك يا نائفة أي يا عالية وراقية ومشرفة؟ وقد ضاعت مني المعاني في بحر قاموس الأسماء. ماذا أقول عنك يا امرأة عبرت سريعاً جداً ربيع العمر إلى خريفه من دون أن تدرك أطايب الصيف وحلاوة السمر، فحصدها الشتاء باكراً. أيكون الاحتباس الحراري ذاك الذي يمحو الفصول قد فعل فعله؟؟ تباً للمرض والألم والموت.
أبحث عنك يا مربية، في أماكنك. أبحث عنك يا ناسكة المنزل ولا أجدك. لا أجد جسداً ترنح تحت وقع ضربات المرض والألم. ضرب المرض جسداً فوجد روحاً لا تنكسر. أين غلبتك يا موت وأنت لم تنل من رجاء المشرفة؟؟ أين شوكتك يا جحيم وقد كسرت سوداويتك كسيحة حاولت أسرها في سجن الإحباط لسنين؟؟؟ قام المعلم يا موت وليس من ميت في القبر بعد يا فساد. قام المسيح، حقاً قام.
كانت لنا أم تحدت الظلم والغبن. كانت لنا أم تقرأ المستور من سريرها وتدير كلّ شيء من قرنتها، من دون أن نعلم. كانت لنا أم أسدلت الستار على رحلتها بعد سهرانية عيد وراحت تتحضر للذهاب مع المجدلية الكبرى. فكان أن غادرت لمّا ارتفع ربّ القداس مع البخور إلى السماوات. غادرت مع انشودة الشكر كسحابة. ولمّا قدمت إليها وجدتها وردة قطفت للتو من حقول الورود في نوّار.
أمي يا طفلة نادتها نسيبتها في الحلم إذ رأتها تعدو على دروب الحارة الفوقا، كما قبلا. فما أجبت. “إلى أين ترحلين؟ أالى دنيا العطر والطفولة وأبيك وأمك والرياحين؟؟”.
“ها إني باقية معكم زماناً قليلا يا أولادي. وبعدها أرحل. لا أريد أن أموت لأني لم أشبع منكم. إلا أنّ الموت استحقاق وعليّ أن امضي فالملاك بانتظاري. أحبوا بعضكم كي تكونوا أبنائي وبناتي. فالمحبة عماد البيت”، كلمات رددتها على مسامع “مروان ومازن وميرنا ومايا”. وها إنك تغيبين وما زالت الجبال الأربعة تردد صدى تلك الكلمات.
لقد أبكيتنا يا سيدة ضاق الصبر من صبرها. لقد أدميتنا يا جسر البيت الذي رأيته يسقط في المنام عشية رحيلك. فكان أن أدركت أنك ماضية. إلا أنك عدت فأحييتنا بالرجاء والمحبة والإيمان.
أمي، أتراك قد اشتقت إلى فوق بعدما ودعت إيفون وهيلانة وسليمة وماري والأهل والمعلمات وكل الجيران والصديقات؟؟ شيّعت حجارة البيت حجرة حجرة بالنظرات، قبل أن تذهبي وتعودي إليه جسماً في صندوق. ودّعت “حنّا” و”روما” والحارة. علمت أن رحلتك ستكون الأخيرة. فتسلحت بالصمت. والصمت لغة الدهر الآتي. قلت لي ولمروان أشياء وأشياء. أفضيت من سحرك علينا كي تنضج فينا الأمنيات.
أمي، ما زلت أرى نفسي طفلا يفرّ من مدرسته ويسير على الطرقات كي يبلغ مدرسة القرية المجاورة حيث مدرستك. هناك حيث الماء والخضرة، أراك تمشين وقد انهيت صفوف “العربية” والروضة. تلبين دعوة صديقة إلى فنجان قهوة طحنته القلوب وانضجته المحبة بعد طول عناء. وتصطحبين الصبي الفار معك.
أمي، ما قبل البارحة تزوجت. والبارحة ولد لي صبي. أضحى لي بيت. صرت أباً يا أمي. فصرت أدرك معنى الأبوّة. وكانّ كل شيء قد تم كي تفرحي به قبيل رحيلك. صليت لأجل ذلك كثيراً. وها إنّ ما أردته قد حصل. حصل فغادرتِ وأنت ترددين: “الآن أطلق عبدتك أيها السيد فإني قد أدركت ما اشتهيت. فإنّ نفسي قد اشتاقت إلى ديار رب القوات”. هذا ما قلته لأبيك الروحي.
أمي، يا ملاك المنزل. يا أسارير فجر ارتسمت محياه على وجه استكان بعدما أسلم الروح. ستبقين في بالي قصة أتلوها حتما على مسامع ولدي “ديمتري”، حول جدة ناضلت وعملت ورحلت برجاء. سأتلو عليه قصص أناسك المحببة، قصص:”سارى وإيفا وسلوى ورمزي وكل الأحباء في الديار”. فالأجيال تقتات حكايات أيضاً.
تحية لك يا “أم مروان” حيث أنت. تحية لك يا رفيقة عمر “حنّا” وسلوته، وكليمة وحبيبة “مروان”، وسند وقبلة “ميرنا ومايا”، وحبر قلم “مازن”.