الباحث خالد غزال
منذ تكوّن الكيان اللبناني وقيام نظامه السياسي على أسس تجعل من المجموعات الطائفية اللبنانية واسطة العقد الاجتماعي، بما يؤمّن للطوائف الهيمنة على المجتمع وجذب اللبنانيين الى ما تراه الطوائف ملائماً في السياسة والدين والحياة الاجتماعية والاقتصادية، وبما يمنع المواطن من الخروج من شرنقة الطائفة التي ينتمي اليها، بحيث يسود قانون يفرض على اللبنانيين ان يولدوا ويعيشوا ويموتوا طائفيين.
ولأن كل طائفة تحتاج الى أيديولوجيا وفكر يبرران لها موقعها ومسلكها، ولأن التأريخ للطائفة وموقعها في الكيان والنظام يتصدر الأولويات، أنتجت كل طائفة مؤدلجيها الذين تولوا كتابة تاريخها، فانحكمت الكتابة بأن ترى الوطن من منظار الطائفة وليس العكس. هكذا يكاد لبنان يفتقد الى كتابة تاريخية موضوعية لنشأته وتطوره. بل إنّ ما هو سائد كتابة تاريخ كل طائفة من منظور موقعها ورؤيتها. يقدم المؤرخ وجيه كوثراني نماذج من بعض هذا التأريخ من الموقع الطائفي في كتابه «إشكالية الدولة والطائفة والمنهج في كتبات تاريخية لبنانية»، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) في بيروت.
تحتل الكتابات التاريخية المارونية موقع الصدارة في التأريخ اللبناني، وهو أمر طبيعي نظراً الى موقع الطائفة المؤسسة للكيان والنظام. لعل أهم النظريات كانت نظرية «الجبل – الملجأ» التي تبناها المؤرخ جواد بولس والتي عاد الأب لامنس ليطورها تحت عنوان «الموطن – الملجأ». يستعيد بولس التاريخ اللبناني الممتد في نظره الى آلاف السنين، ويقرنه بتوصيف لسكان لبنان وتميزهم «بذاتية جماعية قوية ذات صفات نفسية خاصة»، ليصل الى اعتبار الدولة اللبنانية الناشئة هي استمرارية لهوية قومية تعود الى الزمن الغابر.
يعطي المؤرخان أهمية لصراع اللبنانيين ضد الحكم التركي ودورهم في الاستقلال اللبناني، فيقول الأب لامنس: «ينبغي الاهتمام بتتابع تاريخ لبنان والتركيز عليه. فسندهش لتلك الحياة القومية المتمثلة في صراع السريانية مع الاجتياح العربي وفي الجهود التي قام بها فخر الدين ليوحد السوريين ضد السيطرة التركية وفي استنجاده بالغرب لنيل مساعدته من أجل كسر النير المذل». في الجانب الدرزي، يشير كوثراني الى كتابات كل من عباس ابو صالح وسامي مكارم التي تربط بين الخصوصية المذهبية اللبنانية والانتماء القومي العربي. فصراع الأمير فخر الدين مع الباشوات العثمانيين يعطي صورة تتأكد من خلالها أسبقية الانتساب الدرزي الى «المؤسس الأول للدولة اللبنانية»، وبالتالي للموقع الأسبق الذي تحتله الطائفة الدرزية بالتزامه للبنانية والمساهمة في تأسيس «كيان وطني» مستقل عن السيطرة العثمانية، وهو ما يشير اليه ابو صالح :«ان إرث فخر الدين المعني لم يقتصر على محاولاته المستمرة للاستقلال عن العثمانيين، بل تعداه لأول مرة لبناء وطن ودولة تضاهي في تقدمها ما وصلت اليه البلدان المتقدمة في زمانه». يذهب ابو صالح بعيداً باعتبار الأمير فخر الدين ذروة مجد الدروز السياسي والعسكري خلال فترة الحكم العثماني، وأن الدروز نجحوا في تحقيق وحدة وطنية عندما تحالف فخر الدين مع الموارنة في التصدي للدولة العثمانية وولاتها.
في الانتقال الى قراءة تاريخ لبنان من موقع الطائفة السنية من خلال كتابات المؤرخ محمد جميل بيهم، نجد المنحى العروبي وقد جرى إسقاطه على التاريخ العثماني. «فصيغة «لبنان العربي» التي تبلورت في مرحلة نهوض الحركات العربية والوحدوية وقيام أزمة الصراع السياسي الداخلي على مواقع السلطة في لبنان بين الطوائف تترجم نزعة سياسية لتعزيز موقع المشاركة في صيغة «الميثاق الوطني» اعتماداً على العامل العربي».
هكذا باتت العروبة وفق المفهوم الإسلامي السياسي السني هي الصيغة التي تؤمّن المشاركة جواباً عن نزعة مسيحية «توخت إقامة وطن قومي مسيحي يلتزم العزلة عن العالم العربي ويولّي وجهه قبلة الغرب». في المقابل، يستبعد بيهم أن يكون الأمير فخر الدين قد سعى الى إقامة دولة لبنانية، فـ «التحالفات والسلوك السياسي لدى فخر الدين كانا يتمان وفق مصلحة تحقيق الغلبة العصبانية ضمن إطارين: إطار محلي يتسم بالتعددية الدينية والمذهبية، وإطار عثماني يتسم بسيادة الإسلام السني على مستوى الشريعة والهوية». هكذا نشهد خلافاً تاريخياً على فخر الدين حيث يرى المؤرخ السني انتماءه الى اهل السنة، فيما يشدد المؤرخ الماروني على «لا دينيته»، مقابل تشديد المؤرخ الدرزي على «درزيته المتسامحة».
في الموقع الطائفي الشيعي يحتل المؤرخان علي الزين ومحمد جابر آل صفا موقعاً أساسياً. خلافاً لمؤرخي الطوائف الثلاثة، فإن مؤرخي الطائفة الشيعية الذين بادروا الى كتابة تاريخ الشيعة لم يستحضروا التاريخ الشيعي والعاملي لتبرير قيام الدولة اللبنانية، لأن «التهميش الذي عاناه جبل عامل، والشيعة بعامة، خلال فترة بناء الدولة في مرحلة الانتداب، قد حال دون احتلال مواقع في الدولة تسمح او تدفع الى المشاركة في سباق ادعاء رموز تاريخية مؤسسة لها من الطائفة الشيعية أو التعرف إلى شخصيات تاريخية من العهد العثماني يتماهى معها الشيعة «قومياً»، أو في إطار الجغرافيا التاريخية لـ «الدولة – الوطن». من هنا نرى أن النص التاريخي الشيعي يذهب الى ابراز دورالشيعة في التاريخ الإسلامي العام على الصعد الثقافية والعلمية والدينية. لكن ذلك لم يمنع الشيعة من البحث عن بطل شيعي في العشرينات من القرن الماضي ساهم في تأسيس الدولة اللبنانية (ادهم خنجر وصادق حمزة)، وأخيراً منذ سبعينات القرن الماضي عبر قيادات دينية من قبيل موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين.
خارج السرب الطائفي، يغرد المؤرخ كمال الصليبي محاولاً تقديم كتابة للتاريخ اللبناني انطلاقاً من الوقائع وليس من التهويمات الأيديولوجية لكل طائفة. يدحض الصليبي روايات تاريخة حول المعنيين، فينفي مثلاً قصة آل معن وقدومهم الى الشوف، كما يدحض قصة لجوء فخر الدين وشقيقه الأصغر يونس الى كسروان، ويرى ان فخر الدين ليس سوى أسطورة لها دورها في أسطرة التكون التاريخي للبنان الحديث، «حيث بدأت صغيرة ثم نمت مع نمو لبنان حتى أصبح فخر الدين في نظر اللبنانيين اليوم رائد الاستقلال اللبناني ورمز الوحدة الوطنية» على ما يقول الصليبي. يدعو الصليبي اللبنانيين جميعاً، مجتمعاً وطوائف، الى تنظيف بيوتهم من «العناكب»، أي من التشوهات التي أدخلتها الطوائف كل واحدة منها على تاريخها، وجعلته مصدر الحقيقة الوحيدة. فاللبناني مواطن، فيما الطوائف جماعات دينية أو إثنية، وهي ليست أحزاباً أو جماعات سياسية. من دون هذا الفصل يستحيل التعايش بين المجموعات اللبنانية.
قبل الانهيار اللبناني المتمادي منذ سبعينات القرن الماضي، كانت الكتابات التاريخية من منظور طائفي تتسم بشيء من الحشمة والبحث في الوقائع التاريخية والسوسيولوجية للمجتمع اللبناني. منذ عقود، تصاعد الاحتقان الطوائفي بعد انهيار الدولة، وهيمنة الطوائف على معظم المشترك بين اللبنانيين، استتبع هذا الانهيار البنيوي، تصعيداً في التنظير لفكر الطوائف، بحيث يذهب مؤدلجو كل طائفة الى إبراز دور طائفتهم العظيم، ورمي الأخرى بشتى النعوت والأحقاد بما خلق أبنية شاهقة من الكراهية بين اللبنانيين، تضعهم بشكل دائم في احتراب أهلي.