في ذكرى ابن رشد (*)

بقلم: د. أنور الجمعاوي (*)

jamaaouiزيّن محرّك البحث العالمي غوغل صفحته الرئيسة بصورة أبي الوليد بن رشد إحياء لذكرى مرور 888 سنة على ميلاده (14 إبريل 1126م- 520هـ). وتناقل روّاد الشّابكة سيرة الرجل وأهمّ مآثره العلمية والفلسفية، وأثنوا على كتبه وتوجّهاته الفكرية التنويرية. فماذا عن هذه الشخصية الفذّة، وأفكارها الخالدة في الشرق والغرب؟

في مقابل اهتمام الغرب بابن رشد، بدا احتفال العرب والمسلمين بالرجل باهتاً. فهم لا يلتفتون إلى ميلاده، ولا يقدّرون جهده الإبداعي القدر الذي يستحق، حتّى أن أفكاره متروكة بين دفّات الكتب لا تدرّس في الجامعات، ولا تُشرح للناس، ولا يُفصَّل القول فيها في المؤتمرات وفي منابر الثقافة والإعلام إلا نادراً… ابن رشد الفيلسوف والطبيب والفقيه وقاضي القضاة، العلاّمة الفهّامة والمفكّر المستنير، الذي أثارت مصنّفاته الجدل في حياته وبعد مماته، وبلغت كتبه أصقاع الأرض وأصبحت مقولاته في الدين والحكمة وعلم الكلام تُدرّس في أعتى الجامعات في باريس وروما وإشبيلية، كان وما فتئ منارة علم ونبراس معرفة. في كتابه “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” تأصيل للنّظر العقلي في المسائل الدينية، ومحاولة لجسر الهوّة بين الحكمة وبين الشريعة، والبحث عن أسباب التواصل بينها باعتبار أن المراد المصلحة العامة وخلافة الله في الأرض، حتى أن الرجل انتهى إلى القول بعدم التعارض بين الدين وبين الفلسفة لأن كلاً منهما ينشد الحقيقة، معتبراً الهدف واحداً والطرق إليه متعدّدة.

وقد فسّر قاضي القضاة في إشبيلية آيات الأحكام، وبيّن أقوال فقهاء المذاهب السنّية في النّوازل، وشرح مذهب المالكية في خصوص الكثير من المسائل الفقهيّة، وذلك من ضمن كتابه “بداية المجتهد ونهاية المقتصد”. وعكف في مصنّفه “تهافت التّهافت “على الردّ على كلّ من كفّر الفلاسفة وبيّن قيمة الاحتجاج بالأدلّة العقلية على صحّة العقائد الإيمانية، مؤسّساً لعلم كلام جديد، يجمع بين البيان وبين البرهان، ويؤلّف بين الدّين وبين الفلسفة، داعياً إلى تأويل محامل النصّ التأسيسي قرآناً وسنّةً وفق ما يقتضيه العقل.ibn rouchd

ابن رشد وتهمة الزندقة

والنّاظر في سيرة ابن رشد يتبيّن أنه كان راسخ القدم في مجالات معرفيّة شتّى. فهو المتمكّن من فنون الطبّ، وهو العالم بشُعَبِ علم الفلك، وهو الممسك بناصية علم الكلام والفلسفة، وهو الخبير بأسباب الفقه والقضاء. وإلى جانب ذلك جميعاً، كان ابن رشد عليماً بالفلسفة الإغريقية، ضليعاً في شرح كتب أفلاطون وأرسطو التي نقل محاملها إلى القرّاء داخل العالم الإسلامي وخارجه، وظلّت الرشديّة مدرسة فلسفية قائمة الذّات في أوروبا خلال القرون الوسطى حتّى قيل إن الغرب لم يفهم أرسطو إلاّ من خلال شروح ابن رشد لمقولاته، وتفصيله لماهية المنطق عنده. كما شرح الرجل كتاب الجمهورية لأفلاطون، وأسهم في تجديد الوعي السياسي والديني في الغرب، إذ تلقّف كتبه توما الإكويني وسيجار ألبرابانتي وبيترو بمبوناتسي وآخرون.

وقد حملت الكنيسة على الرجل وتعقّبت أفكاره، وصادرت كتبه واتهمته بالكفر. وكذا كان مصيره في بلاد المسلمين، إذ عاش ابن رشد محنة الإبعاد من إشبيلية إلى مراكش بعدما رُمي بشبهة الزندقة. لكنّ أفكار قاضي القضاة بإشبيلية ظلّت سيّارة في الناس، واستلهمت عديد الأعمال الإبداعية صورته أو أفكاره التنويرية، فذكره دانتي في الأنشودة الرابعة من الكوميديا الإلهية، وصوّره الرسّام الإيطالي رافائيل في لوحته “مدرسة أثينا”، وتسمّت عديد الروايات والمسرحيات باسمه. كما جعله يوسف شاهين الشخصية الرئيسة في فيلم المصير (1997). و”كان يُفزع إلى فُتيا ابن رشد في الطبّ كما يُفزع إلى فُتياه في الفقه، مع وفور العربية، وقيل كان يحفظ ديوان أبي تمّام والمتنبّي” على حدّ رواية الذهبي في كتابه سير أعلام النّبلاء. وعلى الرغم من عبقريته وفضله على المسلمين وغير المسلمين مات ابن رشد منفيّاً، محبوساً في بيته بمراكش لا لشيء لأنه فكّر وتدبّر، ونادى بتحرير العقل، وبتحكيم البرهان في فهم الكون والاستدلال على الخالق، فما كان من دعاة التقليد، وأنصار العقل التكراري والفكر الأحادي إلا أن كادوا له عند الخليفة المنصور الموحّدي الذي أصدر أمراً بنفيه وحرق كتبه. بل تجاوز ذلك إلى تحريم الفلسفة، وتهديد كلّ من يُقبل عليها أو يدعو إليها بشرّ العقوبة. وهو ما أدّى إلى انحسار الفكر العقلاني في بلاد العرب، وإلى جمود الاجتهاد، وصعود العرفان بديلاً من البرهان. في حين أقبل الغرب على تدبّر كتب الرجل وتدريسها حتّى أنّها كانت مصدر إلهام عصر الحداثة في أوروبا.

والحاجة أكيدة اليوم في السياق العربي الإسلامي إلى إحياء الرشديّة باعتبارها منبراً من منابر التّنوير في تاريخ المسلمين، وباعتبارها مدرسة من مدارس التعقّل والاعتدال. فمن المهمّ الإفادة ممّا وضعه الرجل في مقاربة المسائل الدينية، وفي تدبّر النصّ التّأسيسي قرآناً وسنّةً.

ومن المهمّ تجديد الوعي الديني وتطويره عبر استحضار أدوات البرهان ومنهج الاستدلال المنطقي الذي اعتمده ابن رشد، فتربية الأجيال الصاعدة على التّفكير العقلاني في الذات والآخر وفي الأشياء والظواهر يسهم في الحدّ من انتشار ظاهرة الغلوّ في الدين، ويسمح بتقديم تصوّر تجديدي للإسلام النصّ والإسلام التاريخ على نحو يمكّن العرب من استعادة دورهم في الحضارة الكونية، ويسهم في استئناف حركة النّظر العقلي في الفكر الإسلامي. وذلك بعدما تغلّقت أبواب الاجتهاد منذ قرون، وحيل بين الناس وبين أسباب الإبداع، ممّا أنتج حالة من الركود الثقافي التي امتدّت طيلة قرون، وأخرجت المسلمين من طور المبادرة الحضارية إلى طور الاتّباع، ومن حيّز التنوير إلى إسار التقليد.

من هنا فإن إعادة الاعتبار إلى ابن رشد ضرورية لأنّها تحقّق مطالب عدّة، لعلّ أهمّها الانتساب من جديد إلى فضاء الفكر العقلاني، والإسهام في تجديد الفكر الديني، وفتح باب الاجتهاد من جديد، وتقديم بدائل عن الفكر المتطرّف، يستند إليها المسلمون في فهم دينهم ودنياهم وفي تمثّل حاضرهم ومستقبلهم. ومن ثمّة يتمّ استثمار التراث الفكري المستنير في إعادة بناء العقول وتحصينها ضدّ مخاطر التعصّب ومزالق الفكر الواحد والرأي المستبدّ بنفسه وبالآخرين. فلا سبيل إلى تحقيق نهضة حضارية من دون إصلاح آليات مقاربتنا للشأن الديني ولكيفيّات فهمنا له ومن دون فسح المجال للتفلسف. فتعقّل الدين وتوجيهه نحو خدمة الصالح العام أفضل من تهميشه أو توظيفه ليكون سبباً من أسباب الانغلاق والتطرّف والتمذهب الطائفي البغيض.

مات ابن رشد، لكن بقيت الرشدية فكراً فاعلاً في الناس، ينشر ألواحه في الشرق والغرب… رحم الله ابن رشد، لقد كان أعظم من عصور الظلام.

***********

(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق

(*) أكاديمي وباحث جامعي- تونس

اترك رد