بقلم: الأديب إيلي مارون خليل
نُكثر، نحن اللّبنانييّن، ويوميًّا، الحديث في السّياسة، كلٌّ منّا يعتقد أنّ رأيه هو الصّواب، وأنّه، وحده، على حقّ. وتدبّ فينا الحماسة، وترتفع الأصوات، فتختلط وتتمازج، فنعود لا نعرف كيف نميِّز صوتًا من صوت، ورأيًا من رأي. وما يزيدنا حماسةً وانحيازًا وتعصُّبًا، “تَصايُح” سياسييّنا عَبر الأقنية التّلفزيونيّة والإذاعات، ويوميًّا، كما مناكفاتهم على صفحات الجرائد والمجلاّت كذلك. فما المُشكِلة؟ وهل لها حلولٌ موضوعيّة؟
لا شكّ في أنّ تعدُّد الآراء، وتَبايُنَها، الكثيرَ أو القليل، في مجتمع ما، أو في بلد محدَّد، ظاهرة صحّيّة. إنّها دليل حُرّيّة. تَعَدُّد الآراء غنًى عقليّ، خصبُ أذهان، رؤيا ثقافيّة. ما يجعل المجتمع، أو البلد، يحيا ظاهرة واجبة. إنّها الدّيمقراطيّة السّليمة الرّافعةُ مجتمعاتِها وبلدانَها إلى ما هو أرقى.
ولكن: هل الحال، عندنا في لبنان، هي كذلك؟
ألواقع، بموضوعيّة واضحة، وحياديّة كلّيّة، أن لا! فإنّ داءَنا، نحن اللّبنانييّن، هو تَفَشّي الجَهالة، وتاليًا، كثرةُ الطُّفيلييّن. وهذه إشارة إلى الغباوة العمياء. والعجيب أنّنا… نأخذ بها!
لماذا الجَهالة؟ لأنّنا جماعةٌ غيرُ مثقَّفة! اَلدّليل؟ هل من حاجة إليه، في هذه الفوضى المعيشيّة (لم أقل الحياتيّة) اليوميّة الدّائمة؟ في القيادة، في التّجارة، في التّربية، في الأنظمة كلِّها… والجاهلُ ممتلئٌ غَباوةً. والغبيُّ طُفَيليّ. وإلاّ، فكيف يختلط حابِلُنا بنابلنا في أحاديثنا، بخاصّة السّياسيّة منها؟ والأكثر غَباوةً، أنّ هذه الظّاهرة المَرضيّةَ، غيرُ المُرضية، قد تفشّت، حتّى في الرّياضة! بحيث بتُّ أتساءل وأسأل: أنحن شعبٌ واحدٌ في بلد واحد، أم مجموعة شعوب في وطن ــ أوطان، أم مجموعةٌ مختلفةٌ، متنوِّعة، لا رابط بينها لجأت إلى ملجإٍ ــ ملاجئ، كلّ مجموعةٍ تمترسُ في زاوية بوجه الأخرى، بكراهيّة سوداء، وحقدٍ أعمى، فيصبح االجميع في نفقٍ شديد الظّلمة لا أفق له!؟
يعيش الطُّفيليّ على الفُتات. فُتات غيرِه، لا يشبع، لا يتغذّى. ويظنّ أن بلى. أن هذا هو الشّبع. فلا يكترث لنبع فَوّار، ولا لحديقة متماوجة، ولا لسنابل معرفة، ولا لشمس حقيقة. وحين تجده في محفل، تراه يتدخّل، ويحاور مناقِشًا، وكأنّه الضّليع، وفي كلّ موضوع.
والطُّفيليّ، بعد، يأتيك من دون دعوة. حيث يستأهل، أو لا يستأهل. لَكأنّه “العَلقة” الّتي تمتصّ دمك، ولا تعيش إلاّ في حلقك، تكاد أن تقطع عنك الماء والهواء والغذاء. فتأكل ممّا لا تُنتج. وتشرب ممّا لا تجمع، وتتنفّس هواء سواها، فتعيش من دون أن تسعى. تُشبه اللّصّ.
والطُّفيليّ، كذلك، يتخلّى عن أيّة مسؤوليّة. يُنجِب فيُهمِل. يكتفي بما يلقم. لا يهتمّ لغد له، أو لأولاده. يُسَرّ لكونه متواجدًا، ولو هامشيًّا (وهو لا يعترف بهذا)، فيحسب أنّ الهامش هو الجوهر. ويغتبط لكونه متلَطّيًا، فيرى أنّ التَّلطّي هو الذّكاء.
وعليه، ألَسنا جميعًا، طُفَيلييّن!؟ نتلقّى فكرَ الآخرين، ونتبنّاه كما هو. نتلقّى عادات الآخرين، وتقاليدهم، ودُرْجاتهم: تَصَرُّفات، وأزياء ومأكولات ومشروبات… من دون أن نتفحّص، فيها ومنها، المناسبَ من غير المناسبِ، فيصبح ذلك كلُّه لنا، وكأنّه منّا ينبُع، هو الخارجيّ الغريب عنّا، شخصيّةً وثقافة وتحوُّلاتٍ ورؤًى وغايات!
كيف ينهض وطنٌ، هي هذه صفات الغالبيّة من أبنائه؟ كيف يمكن لي، أنا اللّبنانيّ، أن أحيا بفكر الغربيّ أو الشّرقيّ؟ كيف يمكن لي، أنا اللّبنانيّ، أن أكون لبنانيًّا وأستمرّ لبنانيًّا، وأنا “أُغَرّب”، أو “أُشَرِّق”؟ كيف ينهض وطن، هي هذه صفات غالب سياسيّيه، حتّى إنّ الأجنبيّ أو الشرقيّ، أو الغربيّ تعاونًا والشّرقيّ “المتغرّب”، هو مَن يأتي بسياسيّيه، برؤسائه، بحكّامه!؟ أيّ ربّ بيت حقيقيّ يمكن أن يخضع لآخر: نسيب، قريب، بعيد، لا فرق، إلى هذا الحدّ؟ أيّ آخر يحبّ لك فوق ما أنت تُحِبّ لنفسك؟ أيّ آخر يعرف حاجاتك وضروريّاتك فوق ما أنت تعرف؟ أيّ آخر يتعامل معك من دون احتساب غاياته أوّلا، ومصالحه؟ فكيف نتغنّى بما نحن به نتغنّى، ونشمخ بالرّأس كأنّنا أسياد العالم!
اَلمستنكَر، في هذا المجال، أن يكون سياسيّونا، في غالبهم، “طُفيليّين” يلتقطون، غيرَ مدعوّين، فُتات موائد زعماء العالم. في هذي الحال، كيف ستكون الغالبيّة منّا، نحن “المساكين”! من أين تنبع “ثقافتُنا”؟ مَن سيكون “يُلهِمُنا”؟
مَن زعيمٌ؟ كلُّهم! مَن قائد؟ كلُّهم! مَن مرتشٍ؟ كلُّهم! مَن ملهَمٌ؟ كلُّهم! مَن ذكيٌّ؟ كلُّهم! مَن “يستخبر”، أخبارًا وصُورًا؟ مَن ومَن ومَن… إلخ! كلُّهم! أقولُ: “كلُّهم” على لسان “كلِّهم”! “اَلكلُّ” يتّهم “الكلَّ”! “اَلكلُّ” يدّعي لنفسِه ما ليس فيه!
ونحن؟ ننساق. نمدّ أعناقنا لـ”نِيرهم”! نفتح أفواهَنا بكلامهم! نسترق السّمع بآذانهم! نتلمّس بأيديهم! نذوق بألسنتهم! نرى بأعينهم! فأيننا، نحن؟ نلبس جلودَهم، بها نتغاوى، طواويس فارغة؛ ونصيح، ديوكًا مغترّة! بلى! يطلع الفجر من عند سوانا! فلْنصدِّقْ! ولْنخرج خارج أسوارنا والخُمّ!
اَلسّياسة! أن تكون، أوّلا، في ثقافة أصحابها، في كراماتهم، في كِبَرهم، في حرّيّتهم، في المسؤوليّة والالتزام. في أن يلتزموا المسؤوليّة! وإلاّ، فعلينا وعلى وطننا السّلام!
أأحلمُ؟ أآملُ؟ أأرجو؟
ولا يزال السّؤال يطنّ: أغبيٌّ أنا، أم أنا صَبور!؟