بقلم: الأديب مازن.ح. عبود
كانت الدنيا في زمن العنصرة. والقمح ذهب للحصاد. جلس الخوري “طنسى” في الخارج. وراح يستدعي الأولاد. حضر “برهوم” وصديقه “كوكي”. فسألهما الخوري أن يتكلما. فتكلما بالعربية. فقال في العنصرة نتكلم لغات أخرى. “الا فتكلموا يا حلوين”.
بدأ “برهوم” “يترغل” (يتكلم) في الفرنسية. فقال: “لوازو فول” أي العصفور يطير. أما “كوكي” فترغل” كلمات بالعصفوري. فضحك الخوري، وأجابهما: “في العنصرة نستدعي، كي يحل على أولاد الرعية، روح الفهم والذكاء والإدراك. إلا أنه على ما يبدو لا يستقر عليهم. فقبل العنصرة مثل ما بعدها. لا بل البطنة تقتل فطنتهم التي تتراجع”. وكان أن لمح فهيم الرعية “بوب” المحترم يتلمذ الولدين. فانضم ضيفاً إلى الحلقة. فرح الولدان إذ شعرا به شخصية محببة من شخصيات السيرك. وانبهرا بحذائه الأبيض، وثيابه المرقطة، وربطة عنقه الصفراء. وقد وجداه بمنتهى الفهم والغيرة. فهو من فرسان “كفرنسيان” ممن يحملون الجماعة على الأكفّ.
تكلم بثقة نفس في موضوعات غير مترابطة. تكلم في الشغور في موقع رئيس جمعية “البر والإحسان” وتأثيرات ذلك على الأبرشية وكفرنسيان. وبدا مهتماً بمعالجة الفراغ الحاصل حتى لو اضطر هو شخصياً بالتضحية بنفسه والتقدم إلى الخدمة. وكان الجوّ حاراً في حزيران أكثر من المعهود. فحلّ الاحتباس الحراري موضوعاً عالجة “بوب”. فاعتبر أنّ “الاحترار مؤآمرة إمبريالية على “كفرنسيان” الممانعة. وبأنه نتاج الرأسمالية المتوحشة ونظمها التي أدت إلى ارتفاع منسوب الانبعاثات الغازية في الهواء”. ولم ينسَ مفاعيل أبقار “طانيوس” وماعدة “فوتين” المتميزة وكلاب “نباح”. وهذا كله من أسباب الشغور غير المباشرة. فالفراغ ابن الخلاف. والخلاف ثمار ارتفاع حرارة الدماء. والدماء الحامية أساس تبدل الأمزجة. وتبدّل الأمزجة الناتج عن التبدل المناخي يزيل القناعة، ويزيد منسوب التكبر الممزوج شكاً. فتتعطل الحياة العامة. ومن تداعياتها الشغب الحاصل على أثر نزول الرفيق “يعقوب” وحرمه المصون إلى الشارع احتجاجاً ونقمة وغضباً جراء انخفاض كميات الأطعمة المتوفرة لإطعامهم كنتيجة لتصحّر الأراضي الزراعية. فصرخ الخوري: “كفى. كفى نظريات “بوب”. ما هذا يا هذا؟؟ داخ الاولاد”.
سمعت “أفدوكيا” من شرفتها الحديث. فما فهمت شيئاً. واعتبرت أنّ “بوب” أفحم المحترم.
ثمّ انتقل “بوب” إلى موضوع خاله الذي يثير شهية المحترم أكثر. لم ينتبه إلى وجود “أفدوكيا” التي كانت ترصد كل شيء من شرفتها. فسأل الولدين لِمَ لا ينتسبان إلى الإكليريكية فيصبحان مطرانين. وعندما يتخرجان، يصبحان فهيمين. فتسمعهما الرعايا وتطيعهما الناس الأوادم وتجيبهما بنعم مهما قالا. فيصيران يتكلمان بالنحوي. ويختاران مرجعيات هذا الدهر. ويجعلان من عمهما “بوب” الذي نصحهما مختاراً أو رئيساً أو ما شابه. ويفتحان له وللخصائص أبواب الملكوت.
صارت “افدوكيا” تدندن من شرفتها. سمعها “بوب” فانحسر، مستلا هاتفه النقال. وسمع كأنه كان يكلم زعيماً، إلى أن رنّ الهاتف في أذنه. فأرتعب “بوب”. وشعر بالحرج. وصار يجري. فسُمعت أصداء ضحكة “أفدوكيا” في كل “كفرنسيان”. قيل إنّ ما حصل كان لتأديب الزائر. وقد أشيع أنّ هذا هو مصير كل من يتجرأ ويقاطع المحترم. وعاد فصفا الجو. فتكلم الخوري مجدداً بالروح والمواهب. وسأل الولدين عن مواهبهما وعمّا يحبان أن يحظيا به. فأجاب “كوكي”: “عندي المغنى والرقص والطلة. مازال يلزمني الغنى وحكي “الفرنساوي” لجذب الفتيات. فتصير “ليلى” أجمل بنات الأرض وابنة الجيران، حبيبته”. أمّا برهوم فأمل أن يطير. فيصير نسراً يحوم فوق “كفرنسيان”.
وعاد إلى المنزل وأبلغ جده بكل تلك الأمور. فسر الجد بالحفيد. وقال له: “جيد أنك تريد أن تطير. لكن لا يطير يا بني إلا الصالح ونقي القلب. أولاد آدم لا يطيرون إلا عندما يصيرون أولاداً لله”.