العقل البشري ومداركه

بقلم: الأب كميل مبارك

pere-camille-1لا شكَّ أَنَّ جميع الدلائل التي ذكرت حتَّى الآن، تبقى مظاهر وظواهر خارجة على مجال المعرفة، لولا العقل البشري الذي يستطيع وحده من بين سائر القوى، أَن يصل إلى استخلاص ما يدرك بالإستقراء والإستنتاج والقياس والمشابهة وما إلى جانب هذه من سبل تمكِّنه من تحديد المدركات.

لقد حاول العقل ويحاول باستمرار البحثَ عن الحقيقة، فانطلق من ماذا وكيف إلى لماذا. فشرح الوجود إنطلاقًا من الموجود. وأَغرق في التأَمُّل وصولاً إلى سبب الوجود وعلَّته. وهنا بدأَت رحلة التيه والشرود. فشكَّك بعض المفكِّرين في كلِّ شيء، وظلَّت مداركم خلف ستار عدم اليقين وضلَّت. وحاول البعض الآخر أَن يجعل من الوجود فيضًا عن واجب الوجود، أَي ذاك الكائن الأَسمى الذي هو السبب الأَوَّل والذي بدونه لا يمكن لكلِّ كائن أَن يكون.

هذه وسواها، محاولات جديرة بالاهتمام والتأَمُّل، لأَنَّها وحدها الدليل الدامغ على امتداد غير منظور لهذا الكون المنظور، وعلى ضرورة أَن تكون غاية الوجود أَسمى من الفناء وأَبعد من البقاء على صورة ما هو موجود. غير أَنَّ العقل توقَّف عند عدد من الحواجز والعوائق التي جعلته يتردَّد في اتِّخاذ قرار النطق بالحقِّ، في كلِّ مرَّة يجد ذاته عاجزًا عن إدراك كلِّ الحق.

أَنا أَقول مع القائلين  إن العقل هو صورة الله في الإنسان، وماء عَجْنَته هي الحريَّة. لذلك على الباحث أَن ينطلق من جوهر ذاته كي يصل إلى الحقيقة الوحيدة التي يبحث عنها. فيعرف أَنَّ طيبة طبع الإنسان الخيِّر تجعله يميل حكمًا نحو الخير قريبًا وبعيدًا. أَي أَن يفعل ما هو حسن على الأَرض مع الناس وسائر المخلوقات، وأَنْ يبحث عن الله الخير المطلق. أَمَّا إذا حاول العقل كما فَعَل عبر تاريخ وعيه الطويل، أَن يُخْضِع كلَّ الأُمور إلى مقاييسه الواحدة، فلن يدرك الحقَّ، وسيظلُّ قلقًا مضطربًا إلى أَن يستريح في الحقِّ الأَسمى، أَي الله، كما يقول القديس أَغوسطينوس. ذاك أَنَّ مقاييس العقل كانت لإدراك المعقولات، ومقاييس الحواس كانت لكشف المحسوسات. وكلُّ ما زاد على هذه وتلك يجب أَن يقاس بمقاييس أُخرى، وإلاَّ عبثًا نحاول الوصول إلى حيث يجب أَن نصل.

هل نستطيع أَن نعرف المسافات إذا ما قسناها بمقاييس الأَوزان؟ وهل نعرف الكيل إلاَّ بالمكيال والحرارة إلاَّ بميزانها؟ أَمَّا إذا حاولنا بعناد الرافضين، أَن نعرف وزن الأَشياء باستعمال المتر وطولها وعرضها باستعمال الكيلو، فسوف نبقى على ضلال. وكما هذه، كذلك مقاييس العقل للمعقولات، لا يمكنها أَن تعرف ما يتخطَّى هذه، إلاّ إذا أُعطي العقل ما هو بحاجة إليه لالتقاط الموجات التي لا يمكن له بدون تلك العطيَّة، أَن يلتقطها، عنيت الإيمان، الذي به ندرك عن وعي برَّاق، أَنَّ الله هو الحبُّ الموجود وهو قبل كلِّ موجود، وأَنَّ روحه القدوس قادر على تجديد وجه الأَرض التي غسلها الإبن الفادي بندى حبِّه.

اترك رد