بقلم: د . ناديا ظافر شعبان (*)
في الثالث عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر العام 1532، سقطت إمبراطورية الإنكا في البيرو، التي شملت بوليفيا، البيرو، الإكوادور، شمال التشيلي، وجزءاً من الأرجنتين، والتي اعتبرت أقوى وأكبر إمبراطورية أهلية في جنوب القارة، بأيدي فرنسيسكو بيزارو. غير أن الثقافة الإسلامية الأندلسية لعبت دوراً مؤثّراً جداً في أرض البيرو، وبخاصة من خلال النساء الموريسكيات (هنّ المسلمات اللواتي بقين تحت الحكم المسيحي في إسبانيا بعد زوال ممالكهنّ). فكيف تجلّى دورهنّ في تجذير الثقافة الإسلامية الأندلسية؟
بعدما أخضع هرنان كورتيس إمبراطورية الأزتيك في المكسيك العام 1519، سقطت إمبراطورية الإنكا في البيرو بأيدي فرنسيسكو بيزارو، وذلك في الثالث عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر العام 1532. كان بيزارو قائد جيش صغير خاص، قوامه كما يشير أنطونيو أورتيز مئتا جندي، بعض أحصنة، وقليل من أسلحة نارية. أذهلت رؤية الأحصنة الإنكيّين، الذين كانوا يرون حصاناً لأول مرّة ، فتسمّروا في أماكنهم ولم يدافعوا عن مليكهم.
كانت تلك الإمبراطورية تُعتبر أقوى وأكبر إمبراطورية أهلية في جنوب القارة، وشملت بوليفيا، البيرو، الإكوادور، شمال التشيلي، وجزءاً من الأرجنتين. وبلغ عدد سكانها في ذروة مجدها، خمساً وعشرين مليون نسمة. أخضع أبناء الشمس الأسطوريون قبائلَ أيمارا، وجعلوا الكوسكو عاصمة حكمهم، الذي دام من القرن الثاني عشر حتى السادس عشر، تاريخ غزوها من بيزارو وحفنة جنود، من بينهم موريسكيون كثيرون مغمورون، وأشهرهم كريستوبال دي بورغوس، صديق الغازي.
اشتراكية الإنكا
كانت حضارة الإنكا متقدمة جداً، وبنية مجتمعها أقرب إلى الاشتراكية. فالإمبراطور يملك كلّ الأراضي، ويوزّعها على السكان وفقاً لاحتياجاتهم. وكان النبلاء، ورجال الدين والعامة، يعبدون الشمس ويحنّطون موتاهم. ولمّا انتصر الغزاة، كان لا بدّ أن تتغير تلك الكينونة كلّها، وأن تُلغى البنية القائمة، وتُستبدل الهوية الإنكية بأخرى دخيلة، ليصبّ مجتمع ما بعد الهزيمة، في القالب الإسباني، وذلك ديناً وثقافة وتقاليد.
في سهل كاخامرغا، حيث التقى الغازي بالإمبراطور أتاهوالبا، تقدّم راهب من الإمبراطور والإنجيل بيده، وطلب إليه اعتناق المسيحية، والاعتراف بسلطة ملك إسبانيا. ولمّا رفض وأعلن أن الشمس إلهه، سُجن وقُتل.
إن عناوين استبدالٍ لكينونةٍ بأخرى،عديدة وتفاصيلها كثيرة، يهمّنا منها هنا، الدور المهمّ والمؤثّر الذي قامت به الموريسكية، وبخاصة في العقود الأولى للاستعمار، في نشر وتجذير بعض سمات الثقافة الإسلامية العربية الأندلسية، في حياة المجتمع البيروفي الجديد، وكان وجودها محركاً لفعل التدجين.
توضح الباحثة ليلى بارتيت، أن الغزاة الإسبان، في سنوات الاستعمار الأولى، كانوا يريدون أن يحقّقوا تكوّن مجتمع إسباني في البيرو، وأصرّوا على الفصل بين غالبين ومغلوبين، كما رفضوا بالمطلق فعل التهجين والزواج من هنديات، فذلك يجسّد كما يذكر خايميه أنريكيز، خطر الاختلاط بعرق غريب، لا يعرف عنه الإسبان شيئاً، ولا يتحدثون لغته، وإن كانت الزوجة الهندية الوثنية، معتنقة حديثاً للمسيحية، وابنة سلالة نبيلة.
في البيرو، كان ثمّة حاجة ماسة، لوجود نساء أوروبيات، يصعب وصولهنّ إلى بلاد بعيدة جداً، احتُلّت حديثاً، ولا تزال الحياة فيها مضطربة وغير مستقرّة. لذا فرض المستعمرون القادة على الأهالي، الارتباط بالموريسكيات، اللواتي يتحدثن الإسبانية، والمباعات كرقيق في إسبانيا، شرط أن تكون واحدتهنّ، معتنقةً للمسيحية منذ عشر سنوات.
كانت المسيحيات الإسبانيات أقلية في البيرو، وشكّل وجودهنّ بعد العام 1550،عشرة في المائة فقط، ولم يكن في ليما العام 1537، غير أربع عشرة إسبانية و380 إسبانياً. وقد لَقبت دونيا إيزابيل رودريغيز نفسها في العام 1570،بـ “الغازية الأولى” في مملكة البيرو.
وفي هذا المجال، يوضح جيمس لوكهارت، أنه ما بين عامي 1532 و1549، وصلت إلى البيرو، ثلاثمائة موريسكية، مزجن دماءهنّ بالدم الإسباني، وقد تزوّج بعضهنّ أو كثيرات منهنّ، من غزاة وقادة وموظفين كبار وبارزين في النيابة الملكية، وكان دورهنّ قوياً في نشأة المولدين البيض. وهكذا نقلن ثقافتهنّ الإسلامية الأندلسية إلى أبنائهنّ وبناتهنّ، وتركن تراثاً إسلامياً واضحاً في تاريخ البيرو: إن اعتناق الموريسكية للمسيحية، لا يعني إطلاقاً انفصالها عن ثقافة إسلامية موروثة منذ ثمانية قرون.
كانت الموريسكيات الواصلات إلى البيرو، حظيّات ثم زوجات، ومديرات أملاك ومدبرات منازل، ومرشدات، يقدّمن النصح في بيئة اجتماعية خاصة، لها تأثيرها في الحياة العامة، وكنّ أيضاً طبّاخات، وكانت إحداهنّ، وهي فرنسيسكا سواريز، صاحبة فرن ونزل، زيّنته بفضة وسجاد من دمشق .
ولا بدّ من القول إن أشهر الموريسكيات في تاريخ أميركا اللاتينية، هي بياتريس دي سالثيدو، زوجة المفتش الملكي غارثيا دي سالثيدو، والتي كان لها من موقعها الاجتماعي المميّز، تأثير كبير في حياة المجتمع الجديد الناشئ.
كانت بياتريس أول امرأة إسبانية موريسكية، تدخل الإمبراطورية المهزومة، وتعايش زوجات وأخوات أتاهوالبا، وتؤرّخ في مذكراتها لهذا الحدث التاريخي المهمّ. وقد أدارت بياتريس كلّ الأعمال التجارية لزوجها الذي أورثها ثروة طائلة، ورزقت منه بابنتين، تزوجتا من رجلين مرموقين، وكانتا تحملان الثقافة الإسلامية العربية الأندلسية.
وكانت بياتريس أول امرأة تشغل منصب قاضٍ في محاكم مملكة إسبانيا، محقّقةً بذلك ما لم تستطع أيّ امرأة أخرى أن تحقّقه طوال قرون. وهي التي أدخلت زراعة القمح إلى البيرو، مسترجعةً بعض حبّات غير مطحونة جيداً من طحين مصدره إسبانيا.
غير ذلك، يستوقفنا في بانوراما تأثير ثقافة الموريسكية في الحياة الاجتماعية البيروفية، نقل عادة الحجاب، التي شاعت بقوة في العاصمة ليما، وتأثيرها في نظام الأسرة الغذائي، الذي اقتضى زراعة حبوب وفاكهة أندلسية، لم تكن موجودة قبلاً في البيرو، وأصبحت بالتالي جزءاً من وجبة العائلة البيروفية.
في مرآة ليما التي أنشأها بيزارو العام1535- هي أكثر العواصم التي يظهر فيها تأثير الحضارة الإسلامية الأندلسية، وبخاصة في مجال الهندسة المعمارية- كان يمكن التعرف إلى عادة تغطية الوجوه بالحجاب الإسلامي، والجسد بالعباءة الأندلسية الموريسكية. انتشرت هذه العادة بين الليمانيات على نطاق واسع، وقلّدتها زوجة نائب الملك، الذي لم يستطع أن يلغيها عندما قيل له إن زوجته تظهر محجّبة. وهذا ما دفع ثاني رئيس أساقفة ليما، في النصف الثاني من القرن السادس عشر، لتهديد النساء بالحرم الكنسي، إذا هنّ لم يتخلّصن من الحجاب المسلم ويخلعن العباءة. لكن الليمانيات تمرّدن على أوامره، وظلّت هذه العادة دارجة حتى العام1860، أي تقريباً، التاريخ الذي بلغت فيه البيرو أوجها الاقتصادي، مغتنية من تصدير روث الطيور البحرية التي تعيش في جزر الباسفيك، وقلّد الأثرياء الجدد الموضة الفرنسية.
أيضاً، مع الموريسكية حصل أول انصهار بين المكوّنات النموذجية البيروفية وبين الأطعمة العربية الموريسكية، فعرف المجتمع البيروفي الجديد، وجبات لحم الخروف المجفّف، السمك المنقوع بالخل، والمكمورة- الأكلتان منشأهما مراكش والجزائر- وذلك بالإضافة إلى حلوى الزلابية، وحلوى العسل التي تصنع في الفاخورة ومربّى التين. وبالتالي، استُعمل الزعتر البري، الزبيب، الباذنجان والحمص، وهذه المنتوجات كلّها زُرعت في البيرو، لتذكّر بالمزروعات الإسلامية الأندلسية.
وعلى ذكر الزراعة، يمكننا أن نورد ما أشار إليه الباحث خايميه كاثيريس، ليوضح أن الموريسكية، زوجة الإسباني المسيحي وصاحب النفوذ في النيابة الملكية، هي التي حملت زوجها، انطلاقاً من حنينها إلى الصحراء، على جلب النخيل- وحتّى الجمال- وغرسه في أرض البيرو. لقد أعطى الإسباني النافذ لزوجته الموريسكية، صلاحية التصرّف في أمور عديدة في الحياة الأسرية، وتكامل مع أذواقهنّ، ونفّذ لهنّ رغباتهنّ، وقد مزجن دماءهنّ بدمائه، فارتضى سمات عديدة من ثقافتهنّ الإسلامية الأندلسية.
انطلاقاً من موقعهنّ كزوجاتٍ لقادة ونافذين من المستعمرين الإسبان، ومن موقعهنّ كمرشدات، ومديرات أعمال ومدبرات منازل، نشرت الموريسكيات سمات عديدة من ثقافتهنّ الإسلامية الأندلسية، وجذّرنها في أرض البيرو، وما أوردناه في هذا الخصوص هو غيض من فيض، لأن الدراسات البيروفية عن تأثير الحضارة الإسلامية الأندلسية في مجتمعات أميركا اللاتينية بعد الغزو الإسباني، هي الأكثر تفصيلاً وإسهاباً، ولا بدّ من العودة إليها والتعريف بها مجدّداً.
*********
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق
(*) كاتبة وروائية من لبنان