بقلم: الأديب مازن عبّود
قال “برهوم” لجده: “جدي لماذا لا تأخذني إلى الجبال معك؟ فهناك تهمس الريح في جوف الوهاد أسرارها. فيخرج منها صفير كصفارات قطارات العودة.
خذني جدي إلى سقف” كفرنسيان” حيث تلامس السماوات الأرض، وإلى حيث تصعد الطائرات كي تأخذ الناس بعيداً.
خذني إلى حيث بنى الملك له قصراً على تخوم بلاد الأنس وعلى مقربة من بلاد الجان.
خذني إلى هناك كي اقطف الشمس وأجلبها إلى المنزل في كانون مشعة دافئة فيفرح بها كل من في البيت.
خذني، فقد قيل لي إن هناك ثمة سلالم يتسلقها الراقدون كي يصلوا إلى دنيا الفرح والأحلام. فهناك قصص “هايدي” و”فلونة” وكل أنواع الخيال.
أريد أن أرتمي في حضن غيمة تحملني فوق “كفرنسيان”، فأعاين الدنيا من فوق. وأرعى مع غنمات الغيم عشب البقاء.
خذني إلى هناك، فصوت جدتي الراحلة يناديني. خذني إلى هناك فـ “أم رعيدي” قد همّت بتنظيف الأرض، وأريد أن ألقي عليها التحية”.
لم يجب الجد. بل صار يهز رأسه ويفكر. فأصر عليه “برهوم” قائلا: “او ليس كرم الشمس قريباً من هناك؟؟ خذني معك إلى الكرم”.
ما أراد الجد أن يجهض أحلام حفيده. كما أنه ما كان يرد له طلباً. فأجاب: “الا فاستمر في الحلم في القمة يا بني. فحين تبلغها تميتها. ولا تعود قمة. تهجرها الأحلام وكل كائناتها الأسطورية. فلا يعود الحلم يستوطنها. وتهجرها “أم رعيدي” يا ولدي. فتضحي حقيقة مجردة وناشفة ومفزعة، أحياناً، لا تشبه تطلعاتك يا بنيّ. ليس المهم أن تتسلق القمم بل الأهم أن تصبح أنت قمة في تواضعك وفضيلتك. فيسكن الله فيك عندها. ويسكنك فيه. وهذا الهدف من الوجود يا ولدي. لن أبقى معك طويلا يا ولدي، لأني راحل غداً الى حيث تحوم النسور والى حيث اتسلق السلالم. لن يكون بمقدورك أن تذهب معي لانّ دورك لم يحن بعد. لا تخف إذا ما غبت عنك. فأنا قررت الرحيل”.
وصار “برهوم” يبكي. فطيّب الجد خاطر الحفيد وضمّه قبل أن يعده بأن يأخذه معه إلى “كرم الشمس”. لِمَ لا و”برهوم” لم يتلكأ يوماً عن حمل زوادة من المنزل إلى الدكان. وكان الجد يكافئه بمنحه ليرة لبنانية لا غير يشتري فيها الصبي من بوظة “جمول” الشيء الكثير. واصطحب الجد حفيده صبيحة يوم معه في رحلة إلى القمة حيث أراه العالم. وعالمهما كان “كفرنسيان”.
هناك اقترب “برهوم” من الغيوم، ولم يبلغها. عاين الشمس ولم يجاروها. فتش عن السلالم ولم يجدها. ما استطاع أن يلتقط من الجو حتى طائرة واحدة. ولم يجد “أم رعيدي”. فايقين عندها أنّ القمة هي فينا، وأنّ القمم تزول حين تطأها أقدام البشر. وأمسك الجد بحفيده وسأله أن يركع ويستمع إلى الريح.
وتطلع الجد إلى العالي إلى حيث تستقر الشمس، وسأل روح الكون قائلا: “يا الهي هبه روح القمم فلا ينزلق في هوة الشهوات. ازرعها فيه فيصير القمة بفضائله. وانت يا ريح لا تهجريه، فيهجره الخيال. اعطه ربي أن يكون حراً أبدا”.
وتطلع الشيخ إلى حفيده وأردف: “تعال إلى هنا في كل مرة تشعر أنك مكبل فتدرك أنك حر. تعال إلى هنا واترك كل شيء تحت وخاطب من تشاء ممن رحلوا. خاطبني. حتما ستكون مستجاباً”.
انتهى المشوار، وأقلع الصيف ووافى الخريف. فعاد “برهوم” عصر يوم من مدرسته. وجد جده مسجى وحوله النساء نادبات. لمحه من شباك المطبخ حيث كان يلوح له بحقيبته مبلغاً إياه أنّ يوم الدراسة انتهى.
صرخ له فما اجاب. فهام الصبي في البرية لساعة او اكثر. راح يبكي وينادي الجبال فما أجابته. صار “برهوم” وحيداً. من كان يمده بالدعم والحب والمشورة ذهب كما قال. وهو كان اعتاد أن يقتات حباً وأحلاماً وأخباراً.
وبعد رقاد جده، راح الصبي يكبر. وقد علق في باله كم ركض طويلا وراء ذلك الصندوق الخشبي حتى التربة. فقد عاين بأم العين كيف تنتهي الرجال، وقصصها وذكراها لا تنطفئ. عقد النية أن يكون قمة في التواضع والفضائل وفاء لجده. إلا أنّ ذلك لم يكن سهلا. فما زالت أمامه مسافات كبيرة كي يصير “قمة رافع” التي تجاور كرم “الشمس” وأراد جده له أن يكونها.
وصار يسأل: هل أستطيع، يوماً، أن أصبح ما قطعت عهداً أن أكونه؟؟ آه كم أنّ العهود صعبة والقمم أصعب.