بقلم: الباحث حنّا عبّود
حظيت الرومانسية باهتمام كبير من جانب النقّاد والدارسين، ومن جانب الكتّاب والشعراء، منذ القرن التاسع عشر وحتى هذه الأيام. وقد وضع كتّاب الغرب أبرز معالم هذه النزعة في الفلسفة والأدب والفنّ والموسيقى… وحتى في كتابة التاريخ وعلم الاجتماع والأخلاق، مكرّرين المقولات الأولى التي وضعها هيغو عن هذه النزعة التي بالغ في إظهارها طفلاً لقيطاً وثورة بلا جذور. لكن ما الجديد الذي جرى تجاهله في الرومانسية، سواء لدى العرب أم الأجانب؟
من أبرز المساهمين في وضع معالم الرومانسية غوته وشيلنج وشيللر… وفكتور هيغو، هو من أرسى أسسها على شكل نظرية متكاملة في مقدمة مسرحيته “كرومويل” معلناً قطع الصلة بالماضي. ولم يقتصر تكرار المقولات الأولى التي وضعها هيغو على الأفراد من أمثال غويار وفان تييغم بل كرّرتها كل الموسوعات المعروفة كالبريطانية ووبستر وكومبتون… وموسوعة كوليير المميزة بأبحاثها الأدبية الدقيقة… وحتى المعاجم الأدبية الصغيرة أمثال “رفيق القارئ إلى الأدب العالمي” من دون تغيير أو إضافة.
تكرّرت هذه المقولات الجاهزة في العربية فلم يبقَ سوى عرضها، موجزة كمحمد مندور، أو موسّعة كمحمد غنيمي هلال، وهناك من لم يستخدم هذا المصطلح البتّة، فلم ترد الكلمة في أيّ كتاب من كتب طه حسين أو توفيق الحكيم- على سبيل المثال- وتخلّص منها أحمد حسن الزيات عندما ابتكر لها كلمة “الإبداعية” وابتكر كلمة “الاتباعية” للكلاسيكية. فالتهافت الغربي على استخدام الموقف الرومانسي (وبقية مواقف المذاهب الأدبية) يقابله عزوف عربي شبه كامل استمرّ حتى منتصف القرن العشرين تقريباً.
المقولات الرومانسية
الرومانسية أسهل المحاضرات على الأستاذ الجامعي. يكفي أن يسرد مقولات الكلاسيكية، ثم يطلب من الطلاب أن يضعوا نقيض هذه المقولات للحصول على الرومانسية. وهذه أوّل مرّة نرى مدرستين لا يربطهما رابط سوى التضاد. معظم المدارس تتداخل سوى هاتين المدرستين. ويمكن للقارئ أن يستفيد من كوميديا دانتي في “المطهر”، وبخاصة الحوار بين المجموعات المتطهّرة التي تسير في اتجاهين متعاكسين (كالمبذّرين والمقترين، مثلاً) فيضع مجموعتين تمثّلان الكلاسيكية والرومانسية تدور الواحدة بعكس الثانية، فيعلو صراخ الأولى بجملة فتجيبها الثانية بجملة مضادة تماماً. وليتخيّل كيف إذا صاحت المجموعة الكلاسيكية “مادية” صاحت الثانية “روحية”، وإذا قالت “موضوعية” صرخت الثانية “ذاتية”، وإذا ذكرت الأولى “العقل” ذكرت الثانية “العاطفة”، وإذا ندهت الأولى “فرح” ندهت الثانية “حزن”، وإذا رفعت الأولى شعار “الغبطة” رفعت الثانية شعار “الكآبة”، وإذا طالبت الأولى بـ “اللغة الفصحى” طالبت الثانية بـ “اللغة العادية”.. وهكذا دواليك. إنه مشهد من أسهل مشاهد الأدب المقارن.
واقع يفوق الخيال
ربما ظنّ بعض القرّاء المشهد المقترح السابق نوعاً من الخيال، مثل خيال دانتي. ولكن لو عاد إلى القرن التاسع عشر وتابع العروض المسرحية في العام 1830 وتخيّل نفسه في حفلة افتتاح مسرحية فكتور هيغو “هرناني” لرأى مشهداً لا يختلف عن المشهد المقترح إلا من حيث الشدّة. فقد حدثت ملاسنة تطوّرت إلى معركة بين الكلاسيكيين والرومانتيكيين اشتهرت باسم “معركة هرناني”. تجنباً للسرد التاريخي نختار بعض اللقطات.
جلس الكلاسيكيون كعادتهم في المقصورات بثياب فاخرة وذقون حليقة وشعر مستعار، على عادة القرن الثامن عشر، بينما جلس الرومانسيون في الصالة بثياب مغضنة لا استواء فيها ولا ترتيب، وبذقون طليقة جداً وشعر أشعث يتطوّح على أكتافهم، كأنهم سكان كهوف. وبينما استخدم الكلاسيكيون مضغة السكر الصخري ليلزموا الصمت أثناء العرض ولإبعاد الجفاف عن حلوقهم، كما هي العادة، أدخل الرومانسيون معهم البصل والثوم وراحوا يلتهمون منه بطريقة برّية فانطلقت روائح حريفة مثل روائح زريبة أوجياس التي نظفها هرقل، أو روائح خان من خانات طريق الحرير، لم تنظف زرائبه. وبدلاً من التزام الصمت كما هي العادة الكلاسيكية، راحوا يكيلون النقد للكلاسيكية والكلاسيكيين ويعيّرونهم ببعدهم عن الحياة الحقيقية، وتصنّعهم في كل شيء، حتى في الابتسامة، ووصفوهم بأنهم مثل الفريسيين في الكذب والرياء والتصنّع. وجرى حوار جماعي غير بعيد عن حوار دانتي بين المبذّرين والمقترّين في مطهره، وقد كنّا نظنّ أن خياله ترميز لا يمكن أن يبرزه واقع، فإذا الواقع ماثل في “معركة هرناني” التي شخّصها الموسيقار الإيطالي الشهير “فردي” تشخيصاً مذهلاً، ربما أفضل ممّا قرأنا عنها.
بدأت المعركة بالنظرات أول الأمر ثم تطوّرت إلى الحوار، فإذا قال الكلاسيكون: كلاب سائبة، أجابوهم: أنتم كلاب من شمع. وإذا قالوا: وقحون، أجابهم الرومانسيّون: أنتم مراؤون، وإذا وصفوهم بأنهم قذرون، أجابوهم أنتم موسوسون… إلخ. كأنّ هذه الميكانيكية في صدام الطرفين انعكست على الدراسات الأدبية، فصار المرء بصورة آلية يضع الصفات المعاكسة للكلاسيكية متوهّماً أنه يحصل على الرومانسية.
الرومانسية مبدأ حياة
الرومانسية نسبة إلى كلمة رومانس. والرومانس قصة فروسية يغامر فيها العاشق بحياته من أجل عشيقته. وهي نتيجة تطوّر القصة السكندرية التي أعقبت قدوم الإسكندر، والتي تقوم على الحب النبيل، ومن شروطها أن تطوف المدن والأماكن الغريبة والبقاع الوحشية، إما بخطف الحبيبة أو أسر الحبيب أو حيلة فنّية أخرى، فتبدأ عملية البحث من قبل أحد الطرفين، فيطّلع القارئ اليوناني على الأماكن الجديدة والغريبة في الشرق الساحر.
أما الأسلوب الرومانسي فهو معروف وقديم جداً، سواء من حيث اللغة أم الخيال أم الارتباط بالذات أم الأماكن الغريبة، أم حب الإدهاش… فلا نعتقد أن أغاني الحب الرومانسية تختلف عن أغاني سافو أو القطع الأرجوانية في ملحمة فرجيل أو كتب أوفيد أو ملحمة دانتي… بل نعود إلى “نشيد الأنشاد” لنجد أنه لا يصنّف- بحسب المقولات التي قدّمها الباحثون- إلا في خانة الرومانسية.
ونسمع كثيراً أن الرومانسية مبدأ حياة، ويقدمون لذلك أبطال الرومانسية من الأدباء كشاترتون، مع أن اليائسين أمثاله ليسوا قلّة في الأدب القديم، فكم من أبطال وبطلات الأدب القديم قتلوا أنفسهم حباً مثل هيرو الكاهنة، التي عشقها الشاب ليندر فكان يقطع مضيق الهليسبونت كلّ يوم إليها ويصعد إلى برجها، فلما أغرقته العاصفة رمت نفسها من البرج. وكان الناس يظنون أن القصة خرافة لأن المضيق لا يمكن قطعه سباحة. لكن اللورد بايرون أثبت عكس ذلك. وقبل أن يقدّم شكسبير روميو وجولييت، سرد دانتي قصتهما، كما روى فرجيل في ملحمته قصة رومانسية تفوقها، هي قصة العشق الذي قتل ديدو، وما أكثر الأمثلة.
أما قطع الصلة بالأدب القديم فوهم أوقعهم به هيغو، فحادثة ليندر وهيرو كتب عنها الكثير من الرومانسيين، من أشهرهم بايرون نفسه في “عروس أبيدوس” وكيتس في “صورة ليندر” وسواهما… فمعظم الرومانسيين حافظوا على الصلة مع الأدب القديم، من بايرون وييتس وشللي وإدغار ألن بو… بل يمكن القول إن قاطعي الصلة من الندرة، بحيث لا يحسب لهم حساب في مسار التقليد الأدبي الذي لا يزال مستمراً حتى اليوم.
الوردة الزرقاء
مع احترامنا الكامل للجهد الذي قام به الدارسون، واحترامنا لاجتهاداتهم، واستفادتنا منها، نرى أن الجديد في الرومانسية جرى تجاهله، وهو أن العقيدة البوذية غزت أوروبا عندما غزت القوى الأوروبية الشرق، وبخاصة في القرن الثامن عشر. وبلغ تأثير البوذية ذروته في الفلسفة والفكر والأدب والفنّ في القرن التاسع عشر حتى سمّي “قرن البوذية”. ولا نجد فيلسوفاً أعقب ديكارت إلا اعتنق البوذية (كشوبنهور)، أو تأثر بها ككانط وغوته وشيلينج وشيللر وهيغل ونيتشه… ويستمر ذلك حتى معاصرينا كارل يونغ ومارسيا إيلياد وكولن ولسون… ولم تنتشر البوذية عقيدةً فقط بل انتشرت أيضاً أدباً، وأقبل الكثيرون على دراسة لغتها. وما نراه أن البوذية هي العامل الأكبر الذي جعل الرومانسية تبدو جديدة كلّ الجدّة، ومن التعسّف توليدها كنقيض للكلاسيكية.
لنأخذ مثالاً عملياً، وهو نوفاليس، من مؤسّسي الحركة الرومانسية والمنظّرين الأوائل لها، وقد اتخذ الرومانسيون شعارهم بعده الوردة الزرقاء التي حدّثنا عنها وجعلها رمزاً للحب ووحدة العالم. كان مع شيللر وشيلينج من أهمّ أركان المثالية التي تعكس الفكر البوذي الذي اجتاح أوروبا. زفّ إلى صوفيا بنت الرابعة عشرة فتوفيت، فنذر نفسه لها معتقداً أنه سيلقاها بالتأكيد إما بالذهاب إليها أو بعودتها إليه.
باختصار يقدّم لنا نوفاليس الجذر الجديد الذي دخل الأدب من الهند وهو البوذية، إذ حدّثنا عن وحدة العالم أو الكون بكلّ ما فيه من نشاط- من غير تمييز بين المادة والروح- وما الحياة الدنيا سوى مرحلة نصل بعدها إلى الحياة الروحية فتلتقي أرواحنا بمن نحب، إما بعودة الروح أو المغادرة إلى الروح، فليس هناك بداية ولا نهاية بل عود أبدي كما سمّاه نيتشه وكرّس له مارسيا إيلياد كتاباً كاملاً.
كل تراث الرومانسية يقوم على هذه الركيزة، وأكبر ممثلي هذه الرومانسية في الأدب العربي هما ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران، وليس غريباً أن يضاف “مرداد” نعيمة إلى التراث الهندي. أما اعتماد الذاتية في الحكم على الشعر فيضطّرنا إلى إدراج طرفة والأعشى ومالك بن الريب وابن زريق…إلخ في رأس قائمة الرومانسيين العرب.
*****
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق