بقلم: الأديب إيلي مارون خليل
مسكينٌ، هذا اللّبنانيُّ،عَبر الأزمنة، منذ ما كان حتّى هذه الأيّام!
يعود ذلك إلى أسباب كثيرة، منها الجغرافيّة، ومنها الثّقافيّة؛ منها البيئيّة، ومنها الاقتصاديّة؛ منها الدّينيّة، ومنها السِّياسيّة؛ ومنها، ومنها… تطول سلسلةُ: “ومنها” إلى ما لا نهاية له!
“فلبنان، منذ كان”، على قول عُمَر فاخوري، “هَمْزَةُ وَصْلٍ” بين الشّرق والغرب. ما جعله نقطةَ تَجاذُبٍ بينهما. ألغربُ طامعٌ، والشّرقُ طامع. ألغربُ يريدُه قاعدةً له، جِسْرَ عُبورٍ إلى الشّرق، لما فيه من سِحر وثروات. والشّرقُ يريدُه لأنّه منه وفيه، فكيف يسمح لبعيدٍ أن يسيطرَ عليه، و”يتحكّم” به! بعد أزمنة، أصبح الغربُ يريدُه لأنّه قريبٌ منه، “يفهم عليه” لغاتِه، يتفاهم معه: ثقافةً وحضارة، وامتدّتِ العلاقاتُ بين أديانهما والطّوائف، فكانت “الحِماياتُ” و”المساعدات” و”العلاقاتُ” المميَّزة المميِّزة… ما أقام القلق والشّكّ والرّيبةَ بين الأفرادِ والجماعات… والشّرقُ يريدُه لأنّه “يفهم” عليه: فاللّغة واحدة، “يتفاهم” معه: ثقافةً وحضارة، وامتدّتِ العلاقاتُ بين أديانهما والطّوائف، فكانت “الحِماياتُ” و”المساعداتُ” و”العلاقاتُ” المميَّزةُ المميِّزة… ما أقام القلقَ والشّكَّ والرّيبةَ بين الأفراد والجماعات… أفرادٌ قلِقٌ بعضُهم من بعضهم، يَشُكّ بعضُهم في بعضهم، يَرتاب بعضُهم ببعضهم… كيف “يُجمِعون” على أمرٍ، “يتفاهمون” حوله، “يقتنعون” به، “يُحبّونـ”ه!…
ألجغرافيا اللّبنانيّة جاذبة. سهلٌ وبحرٌ، وادٍ وجبل. طبيعةٌ أخّاذة. مُناخٌ معتدِلٌ. فصولٌ أربعة. تَنَوُّعٌ كلّيٌّ. هذي، كلُّها، تُغْري وتجذبُ. “تستأهلُ” العملَ للسّيطرةِ التّامّةِ عليها. كلُّ فئةٍ، خارجيّةٍ أو داخليّة، لا ترغبُ في شريكٍ. تريد تكون “النِّعمةُ” لها وحدها. هكذا ينشأ صراعٌ نفسيٌّ، جسديٌّ، عسكريٌّ، يكون اللّبنانيُّ ضحيّتَه الأولى. وحده يخسر: ألمعارك على أرضه، الخراب يلحق بممتلكاته، والتَّدميرُ يُصيبُ ما له، والهلاك يلحق به وحده، “وطنًا” و”شعبًا/شعوبًا”. ويتحمّس لهذا، لذاك، لذلك،لأولئك، مندفِعًا، “مُسْتَقتِلًا”…
ألثّقافة اللّبنانيّة منوَّعة. إذًا تُنَوِّع. لا يفرضُ هذا الأمرُ الخِلاف. بل غِنى الاختلاف. ألاختلافُ تَنَوُّعُ آراء، تنوُّعُ الآراءِ جَمالٌ، ثقافةٌ، انفِتاحٌ، ما يُخصِبُ الحضارةَ. لكنّنا فَهِمْنا(أُفهِمنا؟) أنّ تنوُّعَ الثّقافاتِ تنوُّعٌ في الالتزام، في التَّبَعيّة. هذه التّبَعيّاتُ، عندنا، كانت، دومًا، خارجيّة. فهنا روسيّا، وهناك بريطانيا، وهنالك فرنسا، وهكذا، غربًا. وهنا مصر، وهناك السّعوديّة، وهنالك سوريّا، وهكذا… واليوم؟ لم يتعلّم اللّبنانيُّ أنّ التَّبَعيّةَ جلبت إليه المشكلات، وعليه المصائب والويلات! بلى! اللّبنانيُّ العاديُّ المسكينُ يعرفُ، أمّا “الزّعيم”، فإذا “تعلّم”، ماذا يتبقّى له من زعامة!؟ والغريبُ في الأمر، أنّ اللّبنانيَّ العاديَّ المسكينَ، “الفاهم”، ينساق، يجرُّه زعيمُه، خروفًا، إلى المجزرة، يموتُ ليرفع الزّعيم. يموت ليُثبّتَ، يُكرِّسَ، زعامةَ “الزّعيم”! مِثْلُ هذه التَّبَعيّاتِ، ألا تؤدّي إلى الصّراع النّفسيّ فالجسديِّ فالعسكريِّ، وتاليًا إلى الخراب والدّمار ولا يلحقُ الضّرر إلّا به وحده، “وطنًا” و”شعبًا/شعوبًا”…!؟
والبيئةُ اللّبنانيّةُ: أرضًا وشعبًا(شعوبًا؟)، هي، أيضًا، متنوِّعة. وبَدَلَ أن يكونَ التَّنَوُّعُ عاملَ إغناءٍ وإخصابٍ، تحوّل إلى أنواعٍ من الصِّراع “الهادف”! كلُّ فئةٍ “تهدف” إلى “الخَير العامّ”. وما أدراكَ ما “الخَيرُ العامّ!” هو، وبشكلٍ دائم، ما يُريدُه “الزّعيمُ”. “ألزّعيمُ”، دائمًا، على حقّ، وليس الوطن! لا مفهوم، عندنا، للوطن. كلٌّ يريد “وطنَه” هو. ألآخَرون، بالنّسبة إلى كلّ آخر، ليسوا وطنييّن، إنّما “عُملاء” و”خَوَنة”. كلُّهم يُكَفِّرون كلَّهم. كلُّ آخر خصمي. عليّ إهلاكُ خَصمي، قبل أن يُهلكَني! بيئةٌ هذه جغرافيّتُها وثقافتُها، أتستطيعُ أن ترى رؤية واحدة، ورؤيا موحَّدة موحِّدة إلى وطن/حلم، أو تجلب الخرابَ والدّمارَ والمصائبَ لـ”لوطن” و”شعبه/شعوبِه”!؟
والطّبيعةُ اللّبنانيّة، هي الأخرى، أرضًا وشعبًا(شعوبًا)، متنوِّعة. وفُهِمُ التَّنَوُّعُ على أنّه خِلاف. كلُّ خِلافٍ يؤدّي إلى شكوك ورِيَبٍ، إذا لم تُفْهَمْ ويُعمَل على مُعالجتها، أودت إلى صراعٍ نفسيٍّ جسديٍّ عسكريٍّ، وبدوره أتى بالخراب والدّمار والمصائب الّتي تُصيبُ “الوطن” و”شعبَه/شعوبَه”!
كذلك، ولئلّا نُطيل ونكرّر، على الصّعيد الاقتصاديّ والدّينيِّ والسّياسيّ. إنّما ما يؤلمُني، على صعيدي الشّخصيِّ الفَرديِّ، ما يتعلَّقُ بالدّين!
ألدّين، أساسًا، علاقةٌ فرديّةٌ بينك، كفردٍ إنسانيٍّ، أي عاقلٍ مُفَكِّرٍ، وبين ربِّك الّذي به تؤمنُ، أنت، على ضوء رأيك الخاصّ، كما تشاء، لا يُنازِعُك فيه أحد، ولا تنازع، أنت، أحدًا. أللّهُ، نفسُه، أليس واحدًا، بصفاتِه كلِّها، من محبّة وتسامح ومغفرة وعدالة ووحدانيّة وعِزّة وقوّة… إلى آخر الصّفات/القِيَم؟ كلٌّ منّا، نحن النّاس، يمشي صوب هذا الإله الواحد الأحد، في طريق خاصّ، فلِمَ نتدخّل، إذًا، في شؤون بعضِنا الخاصّة والحميمة؟ علاقة الفرد بربِّه علاقةٌ خاصّةٌ، حارّةٌ أو باردة، حميمة، كعلاقة عاطفيّة حميمة بين اثنين، نحن لا نتدخّل في شؤونهما، من باب الخصوصيّةِ الخاصّة بهما، فكيف نُجيزُ لأنفسِنا ما لا يجوز؟ ونقتتل: أفرادًا وجماعاتٍ في سبيل إلهٍ واحدٍ لا يرغب في اقتتالِنا، أبدًا، بل لا يُجيز، لنا، ذلك!؟
وعليه، أعتبر، أنا اللّبنانيّ الموقِّع أعلاه، أنّي مواطنٌ مسكين… “يعرف” ولا “يُريد” أن يتغيّر… فقد ألِفَ حالاتِه، عَبْر التّاريخ، وباتت “طابعَ” شخصيّتِه!…
لا شكّ في أنّ الأممَ، جميعَا، ستصرخ:
“بتستاهل! يا… غبيّ”! فهل، حقًّا، غبيٌّ أنا، أم أنا صَبور!؟