بقلم: د. عبدالله بوحبيب (*)
شرّفني الصديق الدكتور عبد الرؤوف سنّو بالدعوة إلى تقديم مراجعة عن كتابه “لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف: إشكاليات التعايش وسيادة وأدوار الخارج”. وللدكتور سنّو كفاءة تربويّة وعلمية في تاريخ لبنان والعالم العربي، فهو حائز على دكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر من جامعة برلين الحرّة وباحث في مركز دراسات الشرق الحديث في برلين وأستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية وعميد سابق لكلية التربية فيها.
وللدكتور سنّو إنتاج وافر من الكتب والدراسات والمنشورات باللغة العربية والإنكليزية، آخرها الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته اليوم وهو يقع في أربعة فصول يتحدّث أولها عن واقع النظام والمجتمع السياسي اللبنانيين بعد الطائف في ضوء التطوّرات التي شهداها منذ المتصرّفيّة، وثانيها عن العلاقات اللبنانية – السورية ودور سوريا في لبنان في زمن وصايتها عليه. أما الفصل الثالث، فيبحث بالتفصيل في خلفيات حرب تموز 2006 وتداعياتها السياسية، فيما يتوسّع الفصل الرابع في قراءة ارتباط الواقع اللبناني وانقساماته بالصراعات الإقليميّة.
وخلص الدكتور سنّو في كتابه هذا إلى سلسلة استنتاجات أبرزها ان النظام الطائفي السياسي يحتّم على لبنان التوترات والحروب كل عقد أو عقدين من الزمن، وان البديل الفيديرالي لن ينجح وسيفتت لبنان إلى دويلات، فيما يكمن الحل في عملية تحوّل طويلة نحو الدولة المدنيّة شرط توافر إرادة جامعة لتطبيقها.
أرحّب شخصياً بالدعوة إلى الدولة المدنية، وأزيد بأن المنطقة ككل لن ترتاح إلا متى أمست كل دولة فيها مدنية. غير أن التطورات في العالم العربي تشير إلى أن شعوب المنطقة انتقلت بعد انتفاضها على الأنظمة السلطويّة إلى أبشع أنواع الطائفية والمذهبيّة واللاإستقرار. وينصف هذا المشهد الذي يقال عنه انتقالياً، النظام اللبناني الطوائفي الذي استطاع تأمين قدراً عالياً من الحرية والتقدّم الإقتصادي والإجتماعي في جو مستقرّ نسبياً وجعل اللبناني مميزاً عن أخيه في الدين في العالم العربي إلى أي مذهب أو طائفة انتمى. لذلك، وفي هذا الجو الميّال إلى التطرّف في المنطقة، يخشى من أن يفجّر، تحرير النظام اللبناني من الطائفيّة، الاوضاع بدلاً من تحسينها، وخصوصاً أن الإرادة اللبنانية الواحدة مفقودة بسبب ارتباط معظم القوى السياسية اللبنانية بالخارج وتقديمها مصالحها على المصلحة الوطنيّة اللبنانية.
كذلك، أشارك الدكتور سنّو رفضه للفيديرالية مع الإشارة في الوقت عينه إلى ضرورة اعتماد اللامركزية كأحد أبرز النظم الإدارية السائدة اليوم في دول العالم، سعياً لتحقيق الإنماء المتوازن وتفعيل محاسبة المواطن للمسؤول، وخصوصاً بعدما ظهر ضعف الدولة المركزية في معالجة المشاكل الإقتصادية والإجتماعية وفي توفير إدارة فاعلة قادرة على الإستجابة لمتطلبات المواطنين وحاجاتهم المتزايدة في كل المناطق، مما يؤدي إلى ازدياد مشاعر التهميش والإحتقان والتأثير سلباً على الوحدة الوطنية وعلى الأمن والإستقرار.
وفي تقييمه لمرحلة الوصاية السوريّة، حمّل الدكتور سنّو المسؤولين السوريين والوسط السياسي اللبناني المتحالف معهم مسؤولية عدم التقاء اللبنانيين في ما بينهم بعد الحرب والفساد الكبير الذي طبع تلك الفترة.
مرّة أخرى أوافق الدكتور سنّو على هذه الخلاصة، ولكن للأسف لا تزال القيادات التي صنعتها أو عززت موقعها الوصاية السورية تحتكر التمثيل السياسي لدى المذاهب الإسلاميّة عبر قانون انتخاب شبيه بالقوانين التي ابتدعها النظام السوري، ولا تزال تمارس سياسة العزل والهيمنة ذاتها التي كانت سائدة في زمن الوصاية.
بالإنتقال إلى حرب تموز، وضع الدكتور سنّو تلك الحرب في إطار الصراع الإقليمي الذي سمحت الإنقسامات اللبنانية الداخلية في جعل لبنان ساحة له، واستنتج منها مدى ارتباط اللبنانين بمشاريع الخارج. بناء عليه، دعا اللبنانيين إلى وعي أن الخارج الذي يهب المال والسلاح والدعم السياسي والمعنوي ليس جمعية خيرية أو انسانية، بل دول تنطلق من مصالح وحسابات خاصة ليست بالضرورة في مصلحة لبنان.
أتفق تماماً مع الكاتب في هذه الخلاصة، لكن كلمة حق تقال في حرب تموز 2006. أن حزب الله أقرّ بأنه لم يكن يتوقّع ردة فعل إسرائيلية بهذا الحجم، كما خلصت “لجنة فينوغراد” إلى أن نصب حزب الله كمين لدوريّة إسرائيلية لا يستلزم تلك الحرب الشاملة. وقد أكّدت كل التقارير والكتب التي صدرت في ما بعد أن تلك الحرب حُضّر لها سابقاً لضرب حزب الله، على غرار اجتياح 1982 الذي كان معدّاً لضرب منظمة التحرير الفلسطينية والذي كان من نتائجه نشوء حزب الله.
وأخيراً، أزيد على استنتاجات الدكتور سنّو القول إن تطبيق اتفاق الطائف بالشكل الذي أتى فيه، زاد الإحتقانات الطائفيّة والمذهبيّة وتأثيرها السلبي على وحدة لبنان واستقراره وبقائه ككيان ودولة. فقد هدفت روحية الإتفاق على بناء شراكة بين الطوائف في الحكم بنقل السلطة التنفيذية من رئاسة الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، ونحن نؤيّد ذلك. غير أنه ترك المؤسسات دون سلطة تستطيع أن تحسم في اختلافات وجهات النظر بين اللبنانيين، مما يستدعي تعديلات طفيفة لسد بعض الثغرات في الدستور.
إلى ذلك، وكي تكون الشراكة حقيقية في مجلس الوزراء، يجب أن يعكس أعضاء مجلس الوزراء وبالتالي مجلس النوّاب، التمثيل الفعلي للمكوّنات اللبنانية، مما يعني أن مفتاح التطبيق السليم لاتفاق الطائف يكمن في إيجاد قانون انتخابي عصري يؤّمن المناصفة الحقيقية وصحة التمثيل وتعدديته لكل من هذه المكوّنات في مجلس النوّاب.
دون هذه الإصلاحات الضرورية، سيستمر النظام يتخبّط في حال من الفوضى، وقد يأتي يوم يصبح المطالبين بتغييره أكثر من المحافظين عليه.
********
(*) مدير عام مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية
(*) القيت في الندوة حول كتاب الدكتور عبد الرؤوف سنو “لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف: إشكاليات التعايش وسيادة وأدوار الخارج” في جامعة الروح القدس- الكسليك