نظمت دائرة اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب في جامعة البلمند مؤتمرا بعنوان “برفقة جرجي زيدان: النهضة في عهدة الحاضر”، احتفاء بذكرى مرور مئة عام على غيابه.
قدم فقرات المؤتمر الطالب مطانيوس عواد خريج الكلية، تلاه منسق المؤتمر رئيس دائرة اللغة العربية وآدابها الدكتور شربل داغر، الذي قال: “كتب شوبنهاور بأن تملك شعب لتاريخه هو الذي يمكنه، وحده، من أن يصبح واعيا تماما لكيانه. وهذا ما اقتدى به جرجي زيدان في كل ما كتب، ولا سيما في تأسيس مجلته المنيرة، “الهلال”. وقد يكون في ذلك أشد من ساهم في بناء الصلة الحيوية بين الادب والأمة، ولا سيما عند جمهور المتعلمين العريض، لا عند النخبة وحسب”.
وختم: “من لم يقو على متابعة دراسة منتظمة قبل دخول الجامعة، فدرس في مدرسة مسائية، وبتقطع. من لم يقو على إكمال تحصيله الجامعي انتهى إلى ان يعلم الملايين، وانتهت كتبه ومقالاته إلى أن تصبح كنزا مبثوثا في ثنايا المؤلفات من دون ذكر صاحبها أحيانا عديدة. جرجي زيدان يستحق مثل هذا المؤتمر”.
دورليان
وألقى عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية الدكتور جورج دورليان كلمة تناول فيها مصطلح النهضة وعلاقته الوثيقة بالعروبة، مسجلا ومحدداً معنيين لها: الأول ما قصد به في القرن التاسع عشر إيجابيا وفهمته شعوب المنطقة. “هذه كانت عروبة النهضة. وهي عروبة متنوعة، منفتحة، ثقافية، حضارية وإنسانية، شارك في صوغها كل مكونات المجتمع العربي من مسلمين ومسيحيين على حد سواء. كانت المنطقة حينذاك تعج بتنوع مدهش يشكل مشهدا منسجما تتناسق فيه الألوان الثقافية والإثنية المختلفة، ويعطي للمنطقة العربية حيوية نادرة، وللعروبة نكهة إنسانية. فعاش الجميع في انسجام كلي في كل الأقطار العربية، في العراق وسوريا والأردن وفلسطين ومصر ولبنان.
بعد ذلك تناول “مرحلة “العروبة القومية” كما مورست من قبل أنظمة عسكرية وأحزاب قومية متسلطة، فلم تعد تذكر بنشأتها في القرن التاسع عشر. ولما كانت “العروبة” إسلامية بشكل عام، فهذا لا يعني أنه ممنوع على غير المسلمين ولوجها والجهر بالانتماء إليها. ليست الحضارة العربية ـ الإسلامية هوية قومية أو عرقية أو طائفية، إنها بيئة ثقافية تضم تحت جناحيها مجموع التجارب الإنسانية التي عرفتها شعوب المنطقة وتم التعبير عنها باللغة العربية. إنها “عالم العربية” كما كان يتحدث عنها الشيخ عبدالله العلايلي. إذذاك يصبح بإمكان هذه الحضارة أن تجتذب أيا كان، وأن تدمج في سياقاتها كل من التزم مسارها، وألم بأعلامها، واستوعب ثقافتها، وكل من عاش فيها وترعرع، وتشرب قيمها وارتوى من رموزها وكنوزها”.
نحاس
وكانت كلمة لنائب رئيس الجامعة جورج نحاس قال فيها: “أتى هذا الكاتب في زمن طاب لنا أن نسميه بعد ذلك “عصر النهضة”، ولست أدري إذا كنا فعلا قد أطلقنا عليه هذه التسمية انطلاقا من اقتناعات جامعة، أو انطلاقا من تمنيات وأحلام سعى البعض أن يجعل منها سمات ثابتة في عالمنا العربي”. وبعد أن طرح أسئلة حول ميراث هذا الجهد المجدد. لكن أين هذه النهضة من عقلنا العربي؟ لم يكتب جرجي زيدان وأمثاله لزمنهم فقط، ولم تكن اللغة بحد ذاتها هدفهم. امتطوا اللغة حجة لينهضوا بالشأن العربي من استعمار الرتابة لفكره، ومن استعمار السلفية لمنطقه، ومن استعمار الجمود لتوثبات أجياله. لا يهم زيدان شأن “ابنة غسان” أو غيرها. اعتمدها وسيلة ليقول ما هو أبعد من الكلام، ليطالب العرب بأن “امتحنوا كل شيء وتمسكوا بالحسن”.
وختم: “نهضة جرجي زيدان التي نريد أن نحتضنها هي أبعد من اللغة، والأدب، والهويات. هذه نهضة فكر متوثب يعي قدراته ويضع نفسه على مستوى التحديات المعاصرة ليصنع حضارة الغد، وليس فقط ليرتهن لمنجزات الآخرين”.
وقفتان استهلاليتان
بعد الجلسة الافتتاحية واستراحة قصيرة، كانت وقفتان استهلاليتان. فتحدث الدكتور جابر عصفور عن “رجل الاستنارة الذي مثله زيدان”، مقسما “مكونات من أسهموا في النهضة”، ومرجعا “تشكلهم إلى ثلاثة روافد: الطائفة الأولى منهم أبناء الأزهر ويمثلهم رفاعة الطهطاوي، الثانية مجموعة الأفندية التي أخذت تتشكل زمن محمد على ويمثل طليعتهم علي مبارك، والثالثة المصريون الشوام والذين في الواقع تدين لهم مصر فهم من اسسوا نهضة المسرح والتمثيل، والصحافة، وأكدو حضور فن الرواية. وكان جرجي زيدان من أوائل الداعين الى إنشاء الجامعة فيها”.
وفي حديثه عن “الشوام”، أشار إلى “المجموعة بكاملها من أديب اسحق، وفرح أنطون، وشبلي الشميل، وغيرهم، وما يجمع زيدان بغالبيتهم هو العصامية، معرفيا وماديا. فمن أب صاحب مطعم صغير، تعلم الإنكليزية ودخل كلية الطب التابعة للكلية السورية (الجامعة الأميركية حاليا). من غير المعروف، على نطاق واسع، أن له سيرة ذاتية نشرت في أعداد من “الهلال”، لكنه مات قبل إكمالها. وقد أعيد نشرها في “دار الجيل” ضمن مجلدات الأعمال الكاملة. من هذه الشيرة الذاتية، نعرف أنه اشترك في أول تظاهرة طلابية مع زملائه في كلية الطب، وعلى أثرها فصل من الجامعة. أما الموسوعية فحيث ان الكاتب يلم في كل شيء لقدم لمجتمع متخلف المعارف. فهو متعدد الأدوار: صاحب مجلة ودار للنشر، ناظر في مدرسة، مترجم في الجيش الإنكليزي، يكتب في التاريخ العام والخاص، في التمدن الاسلامي، يؤلف روايات، ويكتب سيرة ذاتية. والغريب ان هذه الصفة، الموسوعية، استمرت من هذا الجيل الى جيل ثورة 1919 مع طه حسين مثالا”.
وقال: “بالنسبة إلى مواجهة الواقع المتخلف. لم يكن زيدان ثائرا، بل عرف أهمية التعليم ونشر المعرفة والوعي، وتصدى لمشكلات واقعية كالجهل والأمية. حين نعرف انه حتى الآن تعاني مصر من 40% من الأمية، فهذا يعني أننا نتحدث عن أكثر من 40 مليون مصري تحت خط الفقر. هذه الأمية كانت موجودة في زمنه، إنما بأعداد أقل، والتعصب الديني والطائفية. عندما أسست الجامعة، وذلك بفضل مطالباته وكتاباته مع آخرين. وحين طلب منه تأليف كتاب للتدريس حول موضوع التاريخ الإسلامي، سحب منه هذا الطلب، بعد أن دفع له المال مقدما، إثر حملة شككت بقدرته على التحدث موضوعيا عن التاريخ الإسلامي: كيف لمسيحي أن يكتب تاريخ التمدن أو الحضارة الإسلامية؟ أو حتى أن يدرسه؟ لكنه تقبل الموقف، وأشار إليه في مقالاته، ولم يتوقف فأصدر كتابا في الموضوع وكأنه نتاج للتحدي على التعصب الديني”..
وتطرق إلى “اختلاف زيدانعن غيره من رجالات النهضة. فهو ليس ثوريا رومانسيا مثل أديب اسحق، وليس ثوريا مدنيا راديكاليا مثل فرح انطون. بدا جرجي زيدان إصلاحيا يبحث في تحسين أنظمة الحكم على المستوى السياسي. أيام الخديوي إسماعيل، الذي أراد جعل مصر قطعة من أوروبا، ولكي تكتمل الصورة يجب أن يكون هناك “دستور” كما هي ممالك أوروبا، أنظمة ملكية دستورية من دون أن يتسبب ذلك بانشقاقات حادة في المجتمع”.
أما سفير لبنان في مصر مندوب لبنان الدائم في الجامعة العربية الدكتور خالد زيادة فتناول في كلمته “وجها آخر لمثقفي النهضة، فأيامها تبدلت وظائف النخب وصولا إلى زمن الحرب العالمية الأولى، زمن اكتمال تجربة زيدان، وقبل أيام وأسابيع من الحرب. ومما قاله: “ماذا ذهب ليعمل به الشوام حين توجهوا إلى مصر؟ نعرف أن الهجرة إلى مصر لم تبدأ في القرن التاسع عشر، فهناك الكثير من المسيحيين هاجروا نحو الجنوب ، بعد الانقسام الكنسي وظهور الروم الكاثوليك، من حلب وعبر دمشق. كان المهاجرون يعملون في مجالات التجارة والصناعات. و قد تمصر جزء كبير منهم. هناك العديد من المؤشرات التي تدلنا على ذلك. ولكن وضع المسيحيين يختلف عن المسلمين الذين ذابوا في النسيج المجتمعي المصري. أما المسيحيون، فقد أنشأوا كنائس سجلت لها أوقاف ورعايا”.
وتحدث “عما حدث في المنتصف الثاني من زمن المتصرفية فبعد انسحاب المصريين من لبنان، تلاشت مهنة الكاتب الديواني. فتحول ناصيف اليازجي وانخرط في أعمال الأدب واللغة، وعمل مع الإرساليات الإنجيلية، كذلك بطرس البستاني الذي ساهم معهم بالترجمة وأسس المدرسة الوطنية وبعدها شارك في الكلية السورية”.
ثم انتقل المؤتمرون الى جلسات استمرت ثلاثة أيام وتوزعت المحاور على الموضوعات التالية: “الهلال” والنهضة، جدل بين المصريين و”الشوام”، جرجي زيدان في السرد، جرجي زيدان في الدرس اللغوي، “الادب” قيد التشكيل، بين النص والدين، بين التقدم والتأخر، في عهدة الحاضر.
يذكر أن المشاركين في المؤتمر هم باحثون من جامعات لبنانية ومصرية، وفرنسية، وهولندية، ومغربية، وعراقية، وسورية.