بقلم: د. فادية حطيط (*)
فعل انخراط إنساني واجتماعي هي الكتابة؛ فضلاً عن كونها نوعاً من التأمل. فالكاتب الإنسان ينخرط في بيئة، ويحمل منها الكثير من ميوله وانحيازاته. والتوفيق ما بين الانتماء إلى الإنسانية جمعاء والانتماء إلى مساحة لها حدود، يشكّل تحدّياً مستمراًّ بالنسبة إلى الكتّاب أياً كانت الفئة التي يكتبون لها ومن أجلها. فما هو موقع أدب الأطفال من ضمن هذه الإشكالية المتمثّلة في ضرورتيْ الانتماء والانفتاح على الآخر؟
قد يقبل المرء بأن حاجة الانتماء إلى المجتمع هي أشد إلحاحاً للصغار من حاجتهم إلى الانتماء الكوني، غير أن الأطفال الصغار يمثلون طفولة الإنسانية عموماً، والتقاط أحاسيسهم وإبرازها في الكتابة يشكّل بذاته تواصلاً مع ما هو إنساني وعام.
وبالطبع، فالمرور من الخاص الذاتي إلى العام الكوني يفترض تواصلاً ما بين الثقافات المتنوّعة وحواراً معها. ولكن هناك من يرى أن هذا التواصل يشكّل تحدياً ليس هيّناً، فالعالم اليوم زاخر بأفكار الكراهية والعنصرية وإلغاء الآخر الذي لا يشبهنا. إنه أقرب إلى أن يكون “تضارباً” بين الثقافات، ومحاولةً لاسترداد أصواتٍ مقموعة في العالم أجمع، أقليات وإثنيات تطالب بحقها بالاعتراف بلغتها، وأديان تسعى لأن تتسع بعضها على حساب بعض.
إذن، هل هذا هو السبب الذي يجعلنا نرى إنسان اليوم عنيفاً ومتصارعاً حتى مع نفسه بما هي تحمل من ثقافة آتية من الآخر؟ وهل هذا ما يجعل العولمة سياقاً لخروج الأصوات المتصارعة إلى العلن؟ كل ثقافة تريد أن تعلن عن نفسها وأن تؤكد حقها بالوجود، وكل ثقافة خائفة من أن يغلبها دفق المعاني فلا تعود أصيلة ومالكة لنفسها. ولكن ما هو المدى الذي يسمح لثقافة معيّنة بأن تنفتح؟ وما هي السدود التي يجب أن تقيمها لحماية نفسها؟
إن أدب الأطفال اليوم يعيش هذه الإشكالية. هل ينغلق على مجتمعات مسيّجة فيحافظ على ما يحتاجه الأطفال من انتماء متجذّر، أم ينفتح على الآخر، فيسهم في تخفيف الصراع الذي تعيشه الثقافات؟
انطلاقاً من هذه الإشكالية، يلاحظ أن كتب الاطفال في العالم تتنوّع في مقارباتها. فطرح وجود الآخر الخارجي، البعيد، المختلف يتبدّى أكثر في المجتمعات المنفتحة ثقافياً، والتي صارت الهجرة إليها تحدياً يطال هوية المجتمع والمواطنية نفسها، وهي بمعظمها مجتمعات غربية تحتاج إلى أيدٍ عاملة شابة تأتي من الخارج، وإلى طاقة حيوية شبابية تفتقدها بسبب هرم سكانها. هذا الأمر يعاش على نحو متفاوت الصعوبة تبعاً للأنظمة السياسية. المجتمع الأميركي الحديث والمتحرّر من ثقل عراقة التراث، يسهل عليه استيعاب العناصر الوافدة، ويعمل على الترحيب بها.
أما المجتمعات الأوروبية فيبدو الأمر أصعب، لأنه يطرح بالنسبة إليها تحدياً على صعيد هويتها الأصيلة. في كل هذه المجتمعات، وبغض النظر عن كيفية التعامل مع الآخر، وشكل الحوار بين الثقافات فيها، فإن أدب الاطفال يشكّل مرآة لهذا الواقع. في الكتب الأجنبية، الآخر المختلف ثقافياً موجود بقوة، لأنه على الأرض موجود بقوة كذلك. والتصورات الإيجابية أو السلبية حيال الثقافات الأخرى التي يحملها الكتّاب، هي إلى حدّ بعيد انعكاس لتجربتهم الاجتماعية ومواقفهم السياسية. وكثيرة هي الدراسات التي أجريت للكشف عن التصورات الثقافية والنماذج النمطية التي يحملها الإنتاج الأدبي الغربي للأطفال في الكتب المدرسية، وفي السينما، وفي اللعب، وفي الكتب أيضاً. وما يعنينا هنا من هذه النتائج الإيجابية والسلبية هو أنها تؤكّد على وجود الآخر وعلى مواجهة تحدي التعامل معه.
سآخذ أمثلة على كتب أجنبية تطرح موضوع الآخر وتتفاعل مع ثقافته، قُدمت في مؤتمر “تجمّع الباحثات اللبنانيات” حول السياسة في أدب الأطفال. قصة الكاتبة البريطانية “آنا باريرا” “صبي غوانتنامو”، وهي تدور حول مراهق بريطاني مسلم يجري نقله إلى أشهر سجن في العالم، وتصوّر ما جرى معه من تعذيب خلال عامين. أو قصة “جامع الزجاج”، وهي قصة صبي مصري قبطي في سنّ المراهقة يعيش من ” لمّ الزبالة ” وإعادة تدوير النفايات في القاهرة. ويمكن أيضاً أن آخذ قصة الكاتبة النروجية “ليز مانيكو” التي تتحدث عن فتاة تراقب والدها وهو يسرق المياه ليلاً من بحيرات فنلندا، ويسقي الجنود والحراس الإسرائيليين الخمر حتى يناموا فينقل عندها صهاريج المياه إلى فلسطين العطشى. إن هذه الكتب، وكثير غيرها، لا تكتفي بأخذ مجتمعها الضيق وقضاياه، بل نراها تخرج إلى مجتمعات أخرى وتتبنّى قضايا بعيدة عنها.
أما في الدول العربية، فإن مسألة التعاطي مع الآخر الخارجي المختلف، ليس لها الأولوية ذاتها. وينحصر توجّه كتب الأطفال فيها في بلورة ” أنا ” ثقافية، كما لو أن مسألة الدفاع عن الثقافة والتراث والأصالة، ما زالت تتحكّم بمقاربات الكتابة للأطفال. لا تسعى الكتب إلى الخروج من مجتمعها، كما أنها لا تعتبر العناصر الوافدة أو الدخيلة أو الزائرة أو المقيمة جزءاً داخلياً من صلب مجتمعها، بل نراها تتعامل معها وكأنها كائنات هلامية عابرة غير ذات أثر.
في دراسة لنا على عيّنة من كتب الأطفال في لبنان، وجدنا أن الخارج يكاد يغيب عن أذهان الكتَاب، وأن الدول الأخرى لا تُذكَر إلا لماماً، حتى تلك التي تسمّى شقيقة، أي الدول العربية الأخرى (تُذكر فلسطين فقط، وذلك باعتبارها قضية). ويكتشف المرء أن القصص هي حقل مسيّج للأسرة التي تصغر فتكون نواتية من دون أقارب أو تكبر فتتألف من حملة الجنسية نفسها أي المواطنين. في لبنان تقوم قصص الأطفال بالتشديد على الداخل من حيث كثرة ورود أماكن ذات جدران. وتميل نحو إبراز ثقافة ريفية وتقديم حب الضيعة كمعادل لحب الوطن. كما تكثر فيها العبارات التي تتكلم عن العادات والتقاليد اللبنانية. إلى ذلك فإنها تعطي قيمة كبيرة للجيرة. ويرد فيها أسماء مناطق لبنانية داخلية، ويندر ذكر دولة عربية أخرى. ولكن بما أن موضوع الهجرة هو من الاهتمامات السائدة في لبنان، فإننا يمكن أن نجد ذكراً لدول المهجر. كما لو أن لبنان يشكّل كتلة جغرافية معزولة عن المحيط، ولكنها متصلة بالعالم الخارجي البعيد.
إن القصص المكتوبة للأطفال تعمل على أن الآخر غير موجود، وتلجأ إلى آليات فكرية تقوم على الانغلاق وعلى تسييج حقل النظر، فتمنع حتى الشبيه من أن تكون له كلمته. والأدهى أن هذه الآلية ليست مقصورة على الكتابة الأدبية فقط، بل تطال كلّ كتابة موجهة للصغار. ففي دراسة أخرى سابقة لنا حول النصوص المدرسية المكتوبة للأطفال في لبنان، تبيّن لنا أن القناعة الضمنية لمؤلفي نصوص الأطفال هي أن الانتماء يكون أقوى في الدوائر الأصغر (الأسرة النواتية، ثم الممتدة، فالجيرة، فالجماعة المحلية…) إلى أن يبهت، ومن ثم يختفي تماماً في الدوائر الكبرى (الدول الأخرى، الدول الأجنبية، البيئة الكونية).
والمستغرب أن الوسائط الثقافية الأخرى الموجّهة إلى الكبار، من برامج تلفزيونية وإعلامية متنوّعة، لا نجد لديها مثل هذا المنحى، إذ إن الكثير من المسلسلات التلفزيونية العربية دأبت منذ نشأتها على إدخال عناصر ثقافية من دول عربية أخرى (مثل إدخال لهجات البدو والريفيين و”الصعايدة”..إلخ) كما نلاحظ اليوم ظاهرة اللجوء إلى ممثلين متعدّدي الجنسيات العربية في البرنامج نفسه، وازدياد برامج المسابقات العربية، التي يتنافس فيها المشتركون باعتبارهم يمثلون بلدانهم. كما أن روايات البالغين قلما تغيب عنها شخصيات من خارج الثقافة المحلية.
هذه الظاهرة لا نجدها في كتب الأطفال. وتغيب الموضوعات العربية المشتركة بشكل عام، ويغيب التفاعل ما بين المجتمعات العربية والأجنبية، لا صداقات بين الأطفال من جنسيات متنوّعة، ولا مغامرات تحدث خارج الحيّز الجغرافي الضيّق.
وعلى الرغم من التطوّر الملاحظ على صعيد نشر كتب الأطفال، وخصوصاً من ناحية التصميم والرسم والإخراج، إلا أن الأنموذج القابع في ذهن المؤلف ما زال الطفل المتقوقع في أسرته وداخل جماعته. ونتساءل عن سبب هذه المساحة الهامشية المعطاة للآخر العربي والأجنبي، هل هو تشييد مزيد من الأسوار حول الأطفال بغرض الضبط؟ أو هو تعزيز لهوية وطنية، ومنع تأثّرها بما هو خارجي؟ أو هو استصغار من شأن الطفل وقدرته على التواصل؟ أو هو مستوى كتابة ما زال يفتقد، على الرغم من التقدّم النسبي الملاحظ، إلى العمق اللازم والجهد الروائي المطلوب؟
أميل للقول بأنه كلّ ذلك.. وربما أكثر.
*******
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق
(*) أستاذة أدب الأطفال – كلية التربية الجامعة اللبنانية