بقلم: الباحث خالد غزال
عشية الذكرى العاشرة لوفاته، استكملت السيدة عائدة خداج فراج جمع كتابات زوجها الراحل عفيف فراج المنثورة والمنشورة في أوقات زمنية متفرقة وأصدرتها في كتاب، هو السابع له، بعنوان: «دراسات في الفلسفة والفكر والدين والسياسة والثقافة والأدب» (دار الفارابي- بيروت). وفيه تكتب: «ها هو كتابك السابع بعد رحيلك خير شاهد على أدواتك المعرفية المتنوعة المصادر والمنابع، الأحادية النهج الموضوعي البحثي الأكاديمي. لقد أعطيت الحقيقة – المعرفة كلّك، فأعطتك بعضها، ولو أمهلك زمانك لوهبتك الحقيقة بعضها الآخر».
يتضمن القسم الأول من الكتاب «في الفلسفة والفكر» ثلاث دراسات، الأولى بعنوان «حسين مروة يستنطق التراث ويقرأ «النزعات المادية في الفلسفة المثالية»، والثانية عن «محمد دكروب يستلهم «رؤى مستقبلية» من الحقبة الليبرالية، اما الثالثة فهي نص غير منشور بعنوان «في الأخلاق الثورية». يصف عفيف فراج محمد دكروب قائلاً :»إذا صدف لك، كما صدف لي مرات عدة ان رأيت محمد يعبر المكان بين مكتبه في المجلة وبيته، اي بين بيته وبيته، فسترى رجلاً يمشي قارئاً وقارئاً ماشياً، يبطيء خطوه التفكر وتستغرقه مقالات المجلة، فلا يرفع نظره ليرى الطريق. كأن الكلمات تضيء طريقه وتدل قدمه، وكأن بين محمد دكروب و»الطريق» مجلة وطريقاً، علاقة تماثل علاقة العين بالضوء». تتناول دراسة فراج قراءة لكتاب دكروب عنوانها «رؤى مستقبلية في فكر النهضة والتقدم والعدالة الاجتماعية»، فيتناول مسائل «الثنائية الحضارية والنهضوي المثنوي»، وغربة المفكر النهضوي عن تاريخه وأهله.
اما دراسته عن الراحل حسين مروة، الذي اغتالته الأيدي الظلامية عام 1987، فيستهلها بصرخة تختصر الدرك الذي تعيشه مجتمعاتنا بعد الانهيارات البنيوية التي تضربها، فيقول :» بأي أداة معرفية نتقرى مشهد هذه الكتل الطوائفية العشائرية ناقلة المجتمع من وضع التجزئة الى تجزئة التجزئة. عن أية مرجعية ثقافية يصدر هذا العنف السياسي الذي يغتال عقولاً تدافع، بأدوات البرهان الفلسفي، عن حضارتنا وحضارية إنساننا العربي. وإلى أية طبقة في جيولوجية بنيتنا الذهنية يرتكز هذا النزوع العاتي إلى تدمير الآخر واستعادة أشكال الصراع القبلي – المذهبي – الديني على خشبة مسرح تاريخي يتغير فيه الممثلون وتبقى الأدوار محددة مكتوبة؟»
يولي فراج في نصه عن مروة أهمية لمسألة العصبيات المنفلتة من عقالها في مجتمعاتنا العربية وما يرافقها من تعصب أعمى، ولعلّ أهم نتائجه رفض الاعتراف بالآخر، بل تكفيره وهدر دمه، وهو الذي دفع ثمنه حسين مروة عندما لم تستطع القوى العصبية ان تحتمل وجود كاتب لا يقول رأيها، فتقتله من دون اي اعتبار لشيخوخته. يشير فراج في جانب آخر الى المنهج الجدلي الذي استخدمه حسين مروة ليكشف العلاقة الجدلية القائمة بين الثقافة الوطنية – القومية من جهة، والثقافة العالمية من جهة أخرى. رفض مروة فكرة الحضارة المنغلقة أو فكرة الدوائر الحضارية المنغلقة التي قال بها أرنولد توينبي، مؤكداً تواصل الثقافات والحضارات، ووجود حضارة إنسانية شاملة تتغذى منها الخصوصيات المتنوعة، بل ان مروة وصل في تأكيده مبدأ التداخل بين الحضارات «الى حد التحرج في استخدام كلمة «حضارات» في صيغة الجمع، لأن تاريخ تعاقب الحضارات هو تاريخ تداخلها وليس تنافيها».
يتطرق الكتاب في قسمه الثاني الى بعض القضايا المتعلقة بالأديان وذلك في ثلاثة نصوص هي: «التوحيد الفلسفي»، «المسار الإشراقي من هرمس الى أفلاطون»، «حوار الحضارات في الإسلام». يرى فراج ان «التوحيد ثورة ثقافية مهدها مصر وقائدها أخناتون، وأنّ مصر تتميز في تاريخها القديم بكونها أرضاً جاذبة للفكر الفلسفي بالنظر الى حضاراتها القديمة وإلى موقعها الجغرافي في الوقت نفسه، وقد تجاوزت في حضاراتها الحضارة السومرية البابلية، كما تفوقت على حضارات بلاد ما بين النهرين. أفادت مصر من مركزية دولتها، ومن الازدهار الثقافي الذي عرفته، ومن التطور الاقتصادي الذي حققته خصوصاً زمن الملوك الفراعنة، ما جعلها مركز استقطاب لقرون طويلة وموئلاً لازدهار الفكر العقائدي المتصل بالفكر الفلسفي.
أمّا القسم الثالث «في السياسة»، فترد ثلاثة عناوين هي: «23 يوليو: إصلاح لا ثورة»، «سقوط النظام العراقي»، «ضعف الأحزاب وقوة القبائل». يشكل النص الأخير حول ضعف الأحزاب وقوة القبائل والتقدم الى الوراء وصفاً بانورامياً حياً لما تعيشه المجتمعات العربية الراهنة من تفكك في بناها وانهيار موقع الدولة لمصلحة العصبيات القبائلية والعشائرية والطوائفية والإثنية. ويرصد فراج تفكك هذا المتحد الاجتماعي الى ملل ونحل، ولعلّ أخطر نتائجها هو التناحر الحربي وسيادة الصراعات الأهلية.
يتضمن القسم الرابع عناوين «في الثقافة والأدب»، ويتطرق الى المواضيع الآتية: «نحو علاقة جدلية بين الثقافة والسياسة»، «الأدب في الثقافة الوطنية»، «خليل حاوي وجبران يسامره في ليل الحلم»، «الرواية اللبنانية تكتب خيبتها على جدار الحرب»، «الشعر يحيي ويميت»، «طلال سلمان وقراءة في كتاب العروبة».
يقدم الراحل هنا وصفاً لمسألة العلاقة بين المثقف والسلطة في عالمنا العربي، فيشير الى ثنائية السياسي – السيد، والمثقف – التابع، ويتجلى ذلك في سياسة القمع التي تطاول المثقفين التي مارستها أنظمة الاستبداد، ضمن وجهة تسعى الى إلحاق المثقف بالسلطة والانضواء تحت برنامجها، بل والتنظير والتشريع لقراراتها والدفاع عنها، او بقاء هذا المثقف على الهامش وتعريضه للاضطهاد اذا ما وظف ثقافته خارج منظومتها. يجزم فراج بضرورة استقلال المثقف عن السلطة بل والابتعاد عنها كشرط لإنتاج فكري وفلسفي يتسم بطابع نهضوي. يقول: «لا يمكن للثقافة ان تساهم في إغناء السياسة بإنجاز مشروع النهضة ان لم تستقل عن آلية سياسة تفرّط الزمن إلى لحظات ومواقف وتكتيكات تقتضيها الحاجات العملية المباشرة. واستقلالية المبدع هي ضرورة وشرط التزامه الحقيقة وممارسة دوره النقدي الفاعل، وبقائه على مستوى المثال الحضاري الأساس الذي يحدد الإنسان غاية وهدفاً، ينبوعاً تنطلق منه المفاهيم والتحديدات ومصباً تتحقق فيه وتنتهي إليه كل الأشكال التنظيمية لجاناً واتحادات وأحزاباً».
على رغم مرور فترة غير قصيرة على النصوص الواردة في كتاب فراج الأخير، الا ان معظمها لا يزال يكتسب راهنية، لكونها استشرفت مبكراً تحولات بنيوية في العالم العربي، نشهد أبرز تجلياتها في هذه الانهيارات والحروب الأهلية المتنقلة والمقيمة سعيدة الى أمد غير منظور.