“برهوم” الصغير والأغطية

بقلم: الأديب مازن ح. عبّود

mazen-1كان الشتاء يخيّم على كل كفرنسيان ونواحيها. والعواصف تمنع “برهوم” وإخوانه من الخروج إلى ملاعبهم. فيصبح المنزل الملعب. ولا يكتمل الملعب إلا بعيدا عن عيون الأهل. وغرف النوم هي النائية عن الرقابة ورغبات صنعة قرار المنازل.

راح يلهو وإخوته وأخواته الذين كانوا يصلحون أن يشكلوا عصابة. راحوا يتسابقون على جمع الأغطية التي صاروا يتزينون بها، فتعلو رتبهم الروحية. ومن كان يرتدي أفضل حلة يصير المرجعية ما بين الاولاد. فيصبح الآمر والناهي ويحكم إخوته الذين يطيعونه ويتحكم بهم. بدأ السباق ومعه الصراع ما بين الأولاد إلى أن تعثر “برهوم” بأغطيته، فوقع على رأسه وكسر أسنانه. وصار يبكي. ولولا أنّ أخته “فوتين” أتت لنجدته لكان كسر رأسه أيضاً جراء تلك الوقعة. “ومن يدري ماذا يحوي الرأس؟؟ أتراه إذا وقع يؤلمني أكثر من الأضراس؟؟ تبا للرئاسات وللوجع ولسباق الأغطية”. هذا ما قاله يومها.

أضحى يكتفي بغطاء واحد صار يستعمله من دون غيره، كي يصلي ويعظ على شاكلة الكبار الذين كانوا يصيرون شمامسة وكهنة ورهباناً وأساقفة. وصار يقيم قداديس ولادية إلى أن علم به العم “نيقولاوس” الذي يحمل القاموس ويمشي. فيسأل هذا “ما معنى اسمك؟؟ ويجيب عنه شارحاً”. وقد وافى “برهوماً” ذاك اليوم مستقصياً عن أعماله وممارساته. وأبلغه بأنه لا يجوز لصبي صغير أن ينتحل صفة الخوري الذي هو “رجل الله”. لأنّ هذا محرم أمام الله والشعب.

ثمّ راح يبلغه كم هو صعب على المرء أن يكون كاهنا. فبحسب العم “نيقولاوس” من يرتدي الأسود يصبح فحمة. فإمّا أن يتقد بلهب الله فيظهر سواده نور ربه؟؟ أو يدخل دياجير الشياطين، فلا يعود الناس يرون فيه الا سواداً يعمي القلب. رهّبه. وأبلغه بأنّه إن عاد فتجاسر على لعب دور الخوري، فإنه سيعلم خوري “كفرنسيان” بالموضوع، الذي سيبلغ حتما سيدنا المطران. و”المطران سيبرق إلى سيدنا البطريرك. ومن الممكن أن يأخذوك إلى “الكركون” أي حيث سجن “سفر برلك”. خاف “برهوم” كثيراً. فهو لم يفكر يوماً في “الوجع” و”الأضراس” و”الكركون” وكل ذلك.

فكان أن طلب مشورة “نظيرة” التي كان الأولاد يتبولون على باب قبوها ويعذبونها كي تلعن. ويرمونها بالحجارة حين تمضي إلى بيت خلائها في خارج المنزل. طلب مشورتها، وقد اشتهرت في كل المحيط، بانها تقرأ الأحلام وتدرك بعض ما في الغيب. تقدم إليها سائلا رأيها في ما قاله “نيقولاوس”. لم تكن العرّافة تحب الصغار كثيراً، إلا أنها أجابته لأنه قدم إليها من قبل عمه “إيليا”. فأبلغته أنّ الكثير من اصحاب الجبب علقت ارجلهم في وهاد الجبال والتهمت أطرافهم الذئاب. صار سوادهم قاتما كسواد السلطة التي تلتهم من يمسك بها. اختفوا كأناس. واخفى سوادهم الفراغ. فأضحوا غير موجودين في عوالم ربهم، لأنهم لهجوا بغير ما فعلوا وخدعوا الناس. ومن ليس له طاقة على التحرر من المشاعر الذابلة، لا يقتربنّ من السواد. ثمّ تنهدت قائلة: “أنا لا أخاف من خطيئتي لأنها معلمتي… ابتعد عن “لعبة الأغطية” يا ولد، فهي خطيرة تكسر الأسنان”.

كبر “برهوم” ومازالت كلمات تلك التي قيل فيها إنها عرّافة، تطن في أذنيه. صار يأمل لو أنه يعود في الزمان كي يعتذر منها هو وصحبه عن كل حجر رموه. وقد رحلت إبان الحروب الصغيرة. ماتت في بيت للراحة بعيدة ووحيدة. وجلبت بقاياها إلى “كفرنسيان” بعد زمن كي تدفن حيث ولدت وعاشت.

اترك رد