التثقيف الذاتي والعصر المعرفي

بقلم: الكاتب المغربي سعيد يقطين

saiidمن العوامل التي تؤدي إلى طغيان الحساسية المثقفية لدى بعض الفئات من المثقفين غياب المواكبة لما ينتج على المستوى المعرفي، والعجز عن مواصلة التثقيف الذاتي؛ والاكتفاء بالرصيد الذي راكمه هذا المثقف أو ذاك في مجال اشتغاله. ونعتبر هذا أيضا من مظاهر الاحتفاء بالذات وعدم الاهتمام بالآخر والتفاعل معه.

تتطور المعرفة الإنسانية، اليوم، بوتيرة تختلف عما كانت عليه في النصف الأول من القرن العشرين، وحتى الثمانينيات منه. ومع التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل، وظهور الوسائط المتفاعلة، وبروز اختصاصات جديدة في مضمار الإنسانيات والاجتماعيات والعلوم السياسية واللسانية والأدبية صرنا أمام عصر معرفي مختلف كل الاختلاف عما كان سائدا في فترات سابقة. لقد أصبح العالم مترابطا، عبر الفضاء الشبكي، وباتت المساهمات المعرفية لا تقتصر على أمة دون أخرى.

كما أن الإبداع الأدبي أضحى يؤثثه متخيل مختلف باغتنائه بتجارب شعوب ظلت بمنأى عن الاعتراف بها في المجال العالمي ثقافيا، والذي كانت تحكمه المركزية الغربية. وكل هذه التحولات التي طرأت بعد سقوط جدار برلين، ودخول العالم مرحلة جديدة، مع ما بات يعرف بالعولمة، يستدعي مواكبة دقيقة وعميقة بهدف إدراك الطوابع الجديدة التي تحرك العالم المعاصر وعلى المستويات كافة. ومواكبة العصر لا يكفي فيها التعويل على الذكاء الفطري، أو الرصيد الذي روكم في مراحل ما قبل هذه التحولات. لا بد من تجديد المعرفة عن طريق التثقيف الذاتي المستمر والرصين، وتطوير المهارات الجديدة التي باتت عنوان حقبة جديدة.

إن مشاكل المثقف العربي وعوائق انخراطه الإيجابي في حركية المجتمع العربي لا ترتهن فقط، إلى انعزاله السياسي، لأسباب ذاتية وموضوعية، ولكنها تكمن، أيضا، في انعزاله عن تحصيل المعرفة الجديدة. إنه يتصرف وكأن العالم توقف عند حدود ما كان يدركه أو يعرفه عن العالم. وما هذا الانعزال إلا وليد ذاك، وكل منهما يؤثر في الآخر ويغذيه.

لذلك لا غرو أن نجد العديد من الأسماء التي كانت معروفة وذات موقع، أيا كان المجال الثقافي الذي انخرطت فيه، تتوقف عن المشاركة بإنتاجاتها الإبداعية أو الفكرية. ولا شك أن هذه الفئة أدركت أن العالم يتجاوزها، وأن الرهانات التي كانت تعول عليها قد تهاوت نهائيا، فكان مصيرها التنحي، وعدم الانخراط. ونجد بالمقابل عددا آخر ما يزال يحلل العالم وقضاياه المعقدة بالطريقة التي كان يفكر بها في السبعينيات والثمانينيات. وتراه في كل واد يتحدث اللغة نفسها، وبطريقة القص واللصق يدبج الكتب، ويشارك في المؤتمرات، بالأفكار التي مضى عليها الزمن، وبالطريقة التي انتهت إلى انعدام التواصل.

في المجال الأدبي العربي الذي أتابعه جيدا، عبرتُ من زمان على وجهة نظر مُفادها أن العديد من الأكاديميين و’الباحثين’، والأسماء المعروفة في مجال الدراسة الأدبية توقفت قراءاتها عند حدود الثمانينيات. لكن حساسيتها المثقفية بدل أن تدفعها إلى العمل على تجديد الذات وتطويرها عن طريق التثقيف الذاتي، نجدها تصر على الاستمرار بمواجهة أي تجديد في التفكير والممارسة بمختلف الذرائع والحجج التي تلقى الآذان الصاغية ممن يسيرون على الخط النرجسي نفسه، وبالأوهام الذاتية عينها. وما يمكن قوله عن الفعاليات الأدبية والثقافية العامة، ينسحب على مختلف المجالات التي تتصل بالإنجاز الثقافي والمعرفي. أما الذين يعملون على تطوير معرفتهم ومجاراة التحولات المحيطة، فلا مجال لبروزهم أو تداولهم على المنصات والمنابر، لأنهم يتكلمون لغة غير السائدة؟

من هنا تتجلى الحساسية المثقفية في التمحور على الذات، ونكران اشتغالات الآخر. إنها تمارس ذلك وتفكر فيه، تارة باسم العولمة، وطورا بادعاء أن هذا الفكر الغربي لا يصلح لنا، لأنه وليد ثقافة الآخر، وتارة أخرى برفض التراث على أنه ماضوي وتقليدي.

إن التثقيف الذاتي لا يمكن أن يقتصر على مواكبة مستجدات العصر المعرفي والانخراط فيه، فقط، ولكنه أيضا مطلب حيوي في علاقتنا بتراثنا’باعتباره آخر. وتستدعي الضرورة إعادة قراءته بأسئلة جديدة وبأفق معرفي جديد مفتوح على المستقبل. أما الاكتفاء باجترار المعلومات المكونة عنه، وهي بالمناسبة سطحية ومتسرعة، فإن ذلك لا يمكن أن يسهم في تجديد المعرفة بالتراث والعصر معا. ويكفي المرء متابعة القنوات الفضائية ليقف على نوعية الخطاب السائد حول تراثنا الديني والعلمي.

إن العوائق الذاتية التي تحول دون المساهمة الفعالة للمثقف في المجتمع متعددة، وغياب التثقيف الذاتي لمواكبة العصر المعرفي من العوائق التي تحول دون التفاعل مع الآخر، والاطلاع على منجزاته، والتفاعل معه عبر الحوار البناء. ولهذا العائق دوره في تعطيل الفكر الثقافي، والممارسة الثقافية، ولذلك كان له أثر في تضخم الحساسية المثقفية.

اترك رد