بقلم: المطران كيغام خاتشريان
يحضرني في مطلع هذه المقالة بيت من قصيدة صاغها الشاعر ابراهيم طوقان قبل سنوات من وقوع الفاجعة الفلسطينية التي أدّت إلى خسارة تلك الأرض المقدّسة على الرغم من محاولات رأب الصدع المتكررة بين المغتصبين والفلسطينيين والتي لم تصل إلى خواتم سعيدة.
كان الزعماء الفلسطينيون في ذلك الوقت يتناحرون حول مصالحهم الضيقة، ويتبارزون في في إلقاء الخطب الرنانة، بينما العدوّ يضع الخطط الاستراتيجية للاستيلاء على ما لا يملكه قانوناً. ولم تنفع تدخلات بعض المفكرين والحكماء للحدّ من هذا النزاع ولملمة شمل العائلة الفلسطينية، وكان من بين هؤلاء الكبار الشاعر الفلسطيني ابراهيم طوقان الذي آلمه ما يحدث في بلاد أجداده، فالفلسطينيون يريدون “طحناً” لكنهم لا يسمعون سوى “جعجعة”، فأفرغ آنذاك غضبه في قصيدة وجّه معظمها إلى الزعماء قائلاً في أحد أبياتها:
في يدينا بقية من بلادٍ فاستريحوا كي لا تطير البقيّة
لكن زعماء فلسطين أصرّوا على عدم الراحة فطارت من بين أيديهم البقيّة.
***
تلك العلة التي كانت أحد أسباب ضياع فلسطين هل تتكرّر اليوم في لبنان؟ وهل أصمّ زعماؤنا آذانهم عن سماع أصوات الشعب التي تطالبهم بحدّ أدنى من الوفاق كي لا يدخل لبنان في متاهة تنتهي به إلى الهلاك؟
ألم يلمس المسؤولون بعد مقدار الأذية التي ألحقوها بلبنان لأن كلاًّ منهم يعزف على وترٍ مختلف؟
ألم يشعر الحكام بوطأة التهجير السوري غير المنضبط الذي يدفع لبنان ثمنه باهظاً والذي سيخلّ بجميع توازناته لاحقاً، فيضرب أمنه واقتصاده؟
ألم تصل بعد لوائح هجرة الشباب إلى أيدي رؤساء الأحزاب والمنظمات وإدارات المجتمع المدني؟
ألم يتنبّه أحد لازدياد نسبة البطالة والنقص الهائل في أعداد الاختصاصيين وأصحاب الخبرات؟
ألم نكتفِ من الانقسام والاقتتال طوال أعوام طويلة عانينا فيها أشدّ أنواع الأهوال والعذابات؟
أين أنتم؟ في أي أرضٍ تعيشون؟ تحت أي سماءٍ تنامون؟ كيف تستطيعون إغلاق أجفانكم على هذا الواقع المرير والمهترئ؟ ما هي مشكلتكم؟ هل هي في الاستراتيجية الدفاعية ونزع السلاح من أيدي جميع الأطراف؟ هل هي في الخلاف حول اتخاذ قرار الحرب أم السلم؟ هل هي في العلاقة مع الدول العربية والإقليمية؟ هل هي في الاختلاف حول استخراج النفط من البحر؟
ثمة أمور أخرى تتعدى ما ذكرنا كالإرهاب والتظاهرات الاحتجاجية وعمليّات السرقة والهدر، والشحّ في الخدمات العامة، وغياب المحاسبة، ولكن كيف الوصول إلى حلٍّ لها إن لم يجلس المسؤولون إلى طاولة حوار ويصغون إلى بعضهم البعض؟ كيف الوصول إلى حل لأي مشكلة إذا لم نعتبر أن هذا الوطن هو لنا جميعاً، فابن الشمال له في الجنوب كما لابن الجنوب في الشمال، وابن البقاع له في كسروان كما لابن كسروان في البقاع، وبيروت هي الأمّ الحاضنة لجميع هؤلاء.
فلنبعد التعصب والتزمت عن أفكارنا، ولنجتمع حول طاولة المحبة والتسامح والتفاهم فهي تتسع لنا جميعاً، والله كفيل بأن يزيل عن أعيننا غشاوة الكراهية والجهل والقساوة لنعاين جمال ما قد نخسره، فلبنان يستحقّ العيش بسلام وإن لم نبادر إلى إنقاذه فنحن الذين لا نستحقه.