غَريقة بُحيرة مورَيه (*)

إنّها ليلة الأربعاء في الثاني والعشرين من حزيران. أكتبُ ما يأتي: “كنت أحبّ حبًّا جمّاً بيت الدكتور مارتي الذي ورثه عن أجداده. كان البيت، الذي يعود بناؤه إلى أوائل القرن Displaying GHARIKA.jpgالتاسع عشر، يقع على مقربة من مدينة أورليان ومن نهر اللواريه الصغير، أحد روافد اللوار. وهو مؤلّف من طبقتين يعلوهما قرميد رمادي غامق، وترتسم في واجهتهما نوافذ كبيرة بيضاء مقطّعة مربّعات بلورية، وسط حديقة فسيحة يزنّرها سوار حجري، وتضمّ أشجاراً مسنّة من الحور والبلوط والزان والصفصاف، إضافة إلى بضع أرزات باسقات يفوق عمرها الثلاثمئة عام. وتسكن الحديقة ليلَ نهار طيورٌ بريّة من مختلف الأنواع.

فوجئت، المرّة الأولى، بوجود أشجار الأرز ها هنا، لكنّي أدركتُ في ما بعد أنّها منتشرة في أرجاء هذه المنطقة. ويحتوي المنزل أثاثاً عريقاً وأنيقاً، ينمّ عن ذوق مرهف وثقافة متوارثة منذ أجيال، تزيّنه لوحات زيتية قيّمة، من بينها بورتريه لموديلياني يفوق ثمنه لوحده ثمن البيت وحديقته. كان المنزل لا يبعد كثيراً عن بحيرة موريه داخل الغابة التي تحمل الاسم نفسه، الغنية بالبرك والمستنقعات. ويمكن الوصول إلى البحيرة عبر درب ترابية ضيّقة تنساب بين العوسج والزعفران وأجمام الأزاهير، في هدأة عميقة لا تقطعها إلا أصوات الغابة. ويلج البحيرة جسر خشبي يقود إلى مقصورة عائمة، آسيوية الطراز، يسودها جوّ ساحر.

كانت تربطني بالدكتور هنري مارتي، رفيقي على مقاعد السوربون، صداقة وطيدة. وغالباً ما كنت أتردّد على منزله في عطل نهاية الأسبوع، حين أكون وحيداً، أو في حال فراق مع لورا، إذ لا يبعد عن شقّتي الباريسية أكثر من ساعة في القطار، أسعدُ خلالها بتأمّل سهول الوسط البهيّة. كان يعلم مارتي مدى تعلّقي بهذا المكان، وحين انتقلَ إلى أميركا ليكمل تخصّصاً إضافياً لمدة عامين، ترك لي مفاتيح بيته. مثل كلّ الأمكنة التي أهواها، صرت أعرف الكثير عن تاريخ هذه الدار وعن غابة موريه التي طالما تجوّلت في أرجائها، حول البحيرة وعلى ضفاف اللواريه، في مختلف الفصول، وفي أوقات الصحو كما في الطقس الماطر، وبتّ ملمّاً بأساطير المنطقة وأغانيها وتراثها. كما كنت أمضي الكثير من الوقت في المقصورة العائمة، مصغياً إلى أعماق الطبيعة وإلى أعماق نفسي.

غير أنّ ما شغل فكري وما يزال في تلك الأنحاء، هو حادثة “عشيقَي كليري”، نسبةً إلى اسم قريتهما المجاورة، أو “عشيقَي البحيرة”، اللذين قضيا غرقاً قبل سنوات، ووُجد جسداها الهامدان طافيين على سطح الماء ذات مساء ربيعي من العام 1992، وكان ذلك قبل يومين من موعد زفافهما. فهذان العاشقان الغريقان لا يبارحان مخيّلتي، وأنا أشعر كأنّهما مقيمان على الدوام في هذا المكان، كلما أتيت إليه. وأشعر أنّهما يرتاحان لوجودي ويحبّانني. كانا اعتادا المجيء إلى هذه الغابة التي قلما يرتادها أحد، فيمضيان الكثير من الوقت في التجوّل في ارجائها، ويمكثان طويلاً في المقصورة العائمة.

ولم يُعرف قط حتى الآن ما إذا كانا انتحرا معاً عشية قرانهما، أم أنّ أحداً دفع بهما عمداً إلى لُجّة البحيرة، أم أنّ حادثاً غريباً ما قد أودى بهما. ومن غير السهل كشف الحقيقة في هذه الأراضي الداخلية التي يتّسم أهلها بالحذر والكتمان وتذهب معهم أسرارهم إلى مثواهم الأخير.

لكنّي، وإن لم أبح بذلك لأحد، فأنا شبه متيقّن في قرارتي بأنّ “عشيقَي البحيرة” انتحرا غرقاً قبيل زفافهما. فلا بدّ أنّهما وصلا في لحظة ما، إلى ذروة قصوى من التواصل الجسدي والروحي ومن الامتلاء والسعادة التامّين، بحيث تمنّيا في تلك اللحظة الموت، فجذبتهما البحيرة إليها. أعتقد أنّه لو كانا في تلك اللحظة في مكان آخر، في بيت ما، أو في أحد الحقول، بعيداً عن المقصورة العائمة، لما انتقلا من الرغبة إلى الفعل. إنّ غرقهما مزيج من السعادة القصوى ومن جاذب الماء. أنا أدرك ذلك تماماً. أذكر أحد أيّام الخريف، حين أمضينا، لورا وأنا، فترة بعد الظهر معاً في غرفة فندق أرل، كيف امتلكتني آخر النهار هذه الرغبة نفسها، فقلت في سرّي: “كم أودّ أن أموت الآن”. يمكن أن يتكرّر ذلك. أمّا جاذب الماء فأعرفه هو أيضاً، وأيّما معرفة.

كنت أذهب إلى بيت مارتي وحيداً قبل سفره إلى أميركا، فلم أصطحب إليه معي أحداً، على رغم أنّ ذلك لم يكن ليزعجه قط. كنت أخبرت لورا عن المكان، لكنّي لم أدعُها ولا مرّة لمرافقتي إلى هناك. كذلك لم آتِ في أيّ وقت على ذكر لورا أمام مارتي. لا أمامه ولا أمام أيّ شخص آخر. كانت لورا، كما قلت ذات مرّة، هي حديقتي السريّة. وحتى اليوم لم يعرف بأمرها أحد، على رغم انقضاء كلّ هذا الزمن على علاقتي بها. حين تعرّف أحدنا إلى الآخر، كانت لورا في الحادية والعشرين وكنت أنا تجاوزت الثلاثين قليلاً. لم تكن علاقتنا في بداياتها علاقة وله كما أضحت عليه. كان يغلب عليها الطابع الجسدي خلال لقاءاتنا الأولى في شقّة حيّ مونج التي كنت تسلّمتها قبل حين وكانت خالية من الأثاث. وكم أحبّ هذه الشقة كما كانت عليه آنذاك، إذ إنّي لا أحتمل البتّة كثرة الأثاث، وأفضّل إلى حدّ بعيد الأمكنة الفارغة أو المحتوية القليل منه.

لا شكّ في أنّ تلك الفترة الأولى، المحرَّرة من الوله، كانت هي الأسعد في علاقتي الطويلة بلورا. كانت لذّة اللقاء في شقّة مونج لا تبدأ لحظة تدقّ لورا دقّتها الخفيفة الخاصّة على الباب، التي تنطوي دوماً على مسحة من التردّد والخجل، بل قبل ذلك، طوال وقت الانتظار، على رغم الخشية التي تنتابني في كلّ مرّة من عدم حضورها. لكنها لم تتخلّف ولا مرّة عن المجيء. غالباً ما كنت أسترق النظر من وراء النافذة في الطبقة الرابعة، إلى الباحة والحديقة الصغيرة، فأتأمّل بشغف صعود لورا الدرج الخارجي، بقامتها الطويلة الهيفاء، الأنيقة اللباس على بساطة، ومشيتها الرشيقة والحالمة في آن، فأتخيّل أنّي سأضمّها بعد قليل إلى صدري، وأتنشّق عطرها الزكيّ، وأحسّ بدفء جسدها البالغ النقاوة والنعومة، وأرى وجهها الفاتن، وشفتيها الورديتين العذبتين، وعينيها الواسعتين الشديدتي الزرقة، حيث جوهرها وسرّها، إلى أن أسمع وقع يدها على الباب. كما كنت أحياناً أمضي فترة الانتظار في مقهى “لوتيسيا” المجاور، المطلّ على ساحة مونج، حيث اعتدت الكتابة، فأترقّب لحظة مرورها في سيل العابرين، وأتابع بشغف طيفها ومسارها، وأمشي وراءها، ثم أناديها عن قرب “لورا، لورا”، فنستقلّ المصعد يداً بيد ونلج البيت معاً.

هذه المرحلة الهانئة المستقرّة من علاقتي بلورا لم تدم طويلاً. فقد أدركتُ بعد حين، ثم أكثر فأكثر، أنّ لورا، على حداثة سنّها وجمالها ورونقها ورهافة مشاعرها وخفرها، هي كائن مجروح النفس، وأنّ جرح نفسها لا شفاء منه. لذلك، ربّما، أحببتها. والعلاقة معها التي رأيتُ فيها في البدء واحة وئام وسكينة في بحر الاضطراب الباريسي كانت نقيض ذلك تماماً. فلورا هي بحر الاضطراب عينه. وقد بدأ التحوّل حين أبلغتني ذات مساء رغبتها في السفر إلى جزيرة برايت البريتانيّة لتمضية بعض عطلتها الصيفية. لم تطلب منّي مرافقتها إلى هناك ولم أسألها ذلك. وخلال الأيام العشرة التي مكثت فيها في أرجاء الجزيرة الفاتنة، أرسلت إليّ العديد من البطاقات البريدية لتنقل لي مشاهداتها، ولتبلغني كم هي مشتاقة إليَّ وكم تفتقد وجودي معها وتتوق إلى لقائي القريب. لكن عند عودتها إلى باريس، لم تتصل بي وتوارت نحو أسبوعين عن ناظري، فتّشت خلالها عنها في كلّ مكان فلم أعثر لها على أثر. حينئذ بدأ هيامي بها، الذي ما زال يمتلك نفسي بالقوّة عينها، فلم يفتر لهيبه ولم يستكن منذ سنين عشر، ولا أدري إذا كان سيستكين يوماً.
كان ولهي بلورا سلسلة طويلة مضنية من اللقاءات والفراقات، في خضمّ التحوّلات المفاجئة وغير المفهومة التي تطبع شخصها. وهي مفاجئة وغير مفهومة في نظري، وليس في نظرها، الذي لم أدرك سرّه قط.

وأغلب الظنّ أنها تبادلني الشعور نفسه، فترى أفعالها مبرّرة تماماً وأفعالي مستغربة، وأنه يستحيل عليها ولوج سرّي. وما كرّس هذا المأزق أنّ لورا لا تحبّ التعبير الكلامي، وترى على الأرجح بأن فهم الأشياء لا يمرّ أوّلاً بهذه الوسيلة، ومجرّد الاضطرار إليها تأكيد بأنّ الواحد لا يعي ما في الآخر ولا يتفاعل بعمق معه. هكذا، كان كلّ نقاش يزيد الطين بلّة. وما كرّس هذه الحال أيضاً أنّ أحدنا لم يعد يستطيع التخلّي عن الآخر، وبات كلّ مناً محور حياة الآخر. كان الوله بلورا مزيجاً مأسويّاً من اللّذة والألم، والسعادة والتعاسة، واليأس المطبق والأمل المتجدّد، والنعيم والجحيم، كلّ منّا، فكيف الخلاص؟ لم تكن فترة الوفاق لتدوم أكثر من أسبوع أو أسبوعين، كذلك فترة الفراق. وطوال هذه السنين العشر، كان يبدوالوفاق، في كلّ مرّة، نهائياً لا شكّ فيه، يحمل ألق اللقاء الأول ووعوده، كذلك تبدو القطيعة والانفصال نهائيين حاسمين لا عودة عنهما قط. مع ذلك، لا يلبث أن يحلّ وقت العودة، محفوفاً بالأشواق التي لا تقاوم، ومغلّفاً في كلّ مرّة بأسباب وحجج لا تخطر على بال، على رغم ما بذلته من جهود يائسة للنسيان. غالباً ما كنت أنا صاحب مبادرة العودة. وحين أتأخّر كثيراً كانت تأخذ هي المبادرة. وغالباً ما كانت تقول همساً، مستسلمة لقدر أقوى منها بكثير:

“لا شيء ينتهي حقّا”.

فقط بعد سفر هنري مارتي إلى أميركا ووجودي لوحدي في دارة اللواريه، بدأتُ أصطحب لورا إليها. أحبّت كثيراً البيت ولوحاته، والغابة والنهر والبحيرة والمقصورة العائمة. أخبرتها الكثير عن المكان ونحن نتأمّله بهدوء من نافذة غرفتنا، أو من المقصورة، أو أثناء تجوالنا في الغابة وعلى ضفّتي النهر. ولكنّي، لا أدري لماذا، كتمتُ عنها أمراً واحداً: قصّة غرق “عشيقَي البحيرة”، فلم أتطرّق إليه أو ألمّح إليه معها قط. وطوال ذلك الشتاء، ثم الربيع، فمطلع الصيف، توالت لقاءاتنا وانفصالاتنا المعهودة في بيت اللواريه، كما في شقّتي، كما في شقّة لورا قرب مسرح الأوديون، وفي سائر الأمكنة التي كنّا نرتادها، ولا سيّما الفنادق التي نحبّها في المدن القديمة وعلى شواطئ المتوسّط والمحيط.

وفي يوم مضيء من حزيران، كان شوق أحدنا إلى الآخر قويّاً عاصفاً، وكان التواصل عميقاً، مؤثراً، بيننا، فبقينا طوال النهار معاً في بيت اللواريه. عزفت لورا في وقتٍ ما بعد الظهر على البيانو، وهي تجيد العزف، ألحاناً أحبّها اختارتها خصّيصاً لي، أصغيت إليها بشغف وتسرّبت إلى أقاصي ذاتي. استعدنا زيارتنا الأخيرة إلى بروج حيث كادت عربة الخيل المجنونة تصدم لورا فنجت منها بأعجوبة، وتذكّرنا الفندق الصغير الغريب الذي وقعنا مصادفة عليه في كانّ القديمة، الذي كانت تديره أختان طاعنتان في السن ترتديان الأسود، وترتفع في باحته المسوّرة نخلتان كبيرتان، وأنا أحنّ دائماً إلى العودة إليه، مع أنّ إقامتنا فيه لم تكن تغمرها السعادة.

*********

(*) فصل من رواية “غربقة على بحيرة مورَيه”  للدكتور أنطوان الدويهي الصادرة حديثاً لدى منشورات “دار المراد” و”الدار العربية للعلوم” .

One comment

  1. يقول ميشلين حبيب:

    أسلوب سرد جميل جداً، يتدفق بسهولة وإتقان فيأخذ القارئ معه ويتنقل به من مفكرة لفكرة ومن مقطع لآخر ومن صورة لصورة وهو مستسلم للجمال في السطور والصور والأسلوب. ولا شك أن طريقة الوصف الجميلة والآخاذة هي التي ساهمت في ذلك. مما جعل النص حياً في فكر وخيال القارئ.

اترك رد

%d