بقلم: الباحث خالد غزال
ضمن موسوعة «تراث الإنسان» التي تجمع كتابات الباحث ابراهيم العريس المنشورة على امتداد سنوات، خصوصاً في صحيفة «الحياة»، صدر جزء ثالث حاملاً العنوان: «الف عام من الفكر السياسي». ويحوي اثنين وتسعين نصاً عن كتب تناولت معظم ما يتصل بالفكر السياسي والقضايا التي يعالجها، وهي قضايا لا تزال تكتسب اهميتها بالنظر الى تطرقها لمسائل في صميم الحياة البشرية وتطورها، كما كانت سابقاً وكما هي راهناً. وإذا كان من الصعوبة بمكان الاشارة الى جميع النصوص، الا ان تبويبها في سياق موضوعات يمكن ان يعطي فكرة عن أبرز الأفكار السياسية التي يتطرق اليها الكتاب. (صدرت الموسوعة عن «مركز الشيخ ابراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث» في البحرين).
في محور يتناول فيه الكاتب تكوّن الدولة وسيرورة الحكم، يتطرق الى أبرز مفكري النهضة، مكيافيللي، وخصوصاً كتابه «الأمير» الذي لا يزال مرشداً لكثير من الحكّام في كيفية ادارتهم للسياسة. والكتاب «واحد من أول الكتب النهضوية التي تتحدث عن السياسة وقد انفصلت عن اللاهوت، وعن الحكم وقد كف عن ان يكون متحدراً من جذور ميتافيزيقية». الى جانب كتاب «الأمير»، يبرز كتاب جان بودان «جمهورية» الذي ترك أثراً سياسياً بارزاً لعقود، لعل ابرزها نظرية هوبس في السياسة. كان بودان يهدف الى ان تستعيد السلطة موقعها وهيبتها وسط مناخ من التسامح الديني، حين كان هذا التسامح مفقودا في عصره لمصلحة الصراعات الدينية والمذهبية. لذا كانت دعوته لحكم مثالي يقوم على الدعوة الى ملكية ديموقراطية.
تحتل الكتب التي تتناول الديكتاتورية والاستبداد موقعاً مهماً في موسوعة العريس. هنا نتجول مع فولتير وميرابو وكونستان وجاك ينفيل وممارسات جدانوف تجاه المثقفين وصولا الى روائع جورج اورويل. نحن امام مروحة تمتد من ممارسة الديكتاتورية والإرهاب في زمن الثورة الفرنسية، وصولا الى زمن الشيوعية ومعسكر البدان الاشتراكي في القرن العشرين. وهي مسيرة لم تتوقف خصوصا في مجتمعاتنا العربية. لعل المفارقة الكبرى تأتي من هذا التناقض الكبير بين قيم الثورة الفرنسية في الحرية والمساواة وكونها قامت من أجل تحطيم الديكتاتورية والاستبداد الملكي، وبين ممارسات قادة الثورة عندما لم يعودوا منظرين لها بل قادة لمسارها، وما نجم عن ذلك من استبداد وارهاب أشد فظاعة، ولا علاقة له بكل فكر التنوير الذي مهد لهذه الثورة. الأمر نفسه عاد يتكرر مع التجربة الاشتراكية التي استندت في فكرها الى تراث يدعو الى حرية الإنسان ومنع استغلاله والوصول الى اعلى درجات الديموقراطية، فاذا بالتجربة تتحول الى اسوأ انواع الديكتاتورية في التاريخ، حيث ابيد الملايين من البشر باسم نظرية تدعو الى خلاص الانسان وتحرره من الاستغلال والاضطهاد في الآن نفسه. في زمن جدانوف كان على المثقف ان يتبنى «الواقعية الاشتراكية ومفاهيم البطل الإيجابي، وأدب الشعب والإبداع من اجل البروليتاريا وديكتاتوريتها»، والا يقف المثقف عندها بالضرورة في صف الأعداء الامبرياليين.
تمثل فلسفة الديموقراطية أهم النظريات التي شكلت محور الفكر السياسي منذ عصر النهضة حتى الزمن الحالي، تأييدا او رفضا لمقولاتها. لعل كتاب مونتسكيو «روح الشرائع» يشكل واحداً من المؤلفات الكلاسيكية التي أعطت هذه الفلسفة أبعادها الواقعية خصوصاً من خلال التشديد على سلطة القانون والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ضماناً لتحقيق التوازن في الحكم وتحقيق حرية المواطن. ويشهد الفكر الديموقراطي نقلة نوعية في كتاب الفرنسي الكسي دي توكفيل «عن الديمقراطية في اميركا»، حيث ساهم في وضع الأسس النظرية المستندة الى تجربة سياسية واقعية، حيث كان من هموم دي توكفيل اكتشاف النظام الاميركي الجديد الذي تشكل المساواة محور سياسة النظام وحياة المواطنين فيه، كذلك تكافوء الفرص. لعل كلام المؤرخ الفرنسي فرانسوا فوريه يشكل أفضل تعبير عما هدف اليه دي توكفيل: «ان دي توكفيل لم يذهب الى الولايات المتحدة بحثا عن نموذج، ولكن عن مبدأ يدرسه، وعن قضية يرسمها ويحل إشكالاتها.. كان ما يشغل باله السؤال التالي: ضمن أية شروط تصبح الديمقراطية، اذا كانت حال مجتمع، ما يتعين عليها ان تكونه، اي حال حكم وسلطة، من دون ان تؤدي الى الديكتاتورية؟».
يولي الكاتب اهتماماً بنظريات التغيير الثوري، خصوصاً الداعية الى تحقيق الاشتراكية نظاماً للحكم، وذلك من خلال التطرق الى كتابات برودون وكارل ماركس ولينين وغرامشي. شكلت نظرية الصراع الطبقي احد الأسس النظرية والعملية التي ارتبط فيها النضال الثوري لقلب انظمة الحكم البورجوازية في العالم. يقر ماركس ولينين ان مقولة الصراع الطبقي ليست اكتشافا ماركسيا، لكن الجديد الذي أدخلته الماركسية هو ان هذا الصراع الطبقي سيقود حتما الى سلطة ديكتاتورية البروليتاريا وبالتالي زوال الدولة. تخترق هذه المقولة كتابات معظم منظري الاشتراكية والشيوعية، وتصل ذروتها في كتاب لينين «الدولة والثورة» الذي يدفع فيه بهذه النظرية الى ذروتها. تكمن المأساة المهزلة في ان هذه النظرية التي اعتبرت ان زوال الدولة وتحقيق المساواة والغاء استغلال الانسان للانسان هي الهدف النهائي لتحقق الصراع الطبقي، هذه النظرية انتهت في الممارسة الواقعية الى بناء اعتى دولة بيروقراطية وديكتاتورية مارست ابشع انواع الاستبداد في التاريخ وابادت ملايين البشر باسم الانسانية، بدلا ان تحقق زوال الدولة او انطفاءها وانحلالها وفق التعابير المحببة لقائد الثورة لينين.
الى جانب استبداد الشيوعية، مثلت النازية والفاشية في النصف الاول من القرن العشرين الجانب المظلم في تاريخ البشرية والذي لم يكن اقل وحشية واستبدادا من ممارسة أنظمة المعسكر الاشتراكي. يعتبر الكاتب ان المقدمات النظرية للنازية والفاشية يمكن رصدها من «خطابات الى الأمة الالمانية» للفيلسوف فيخته الذي يعتبر بحق مؤسس الفاشية الحديثة. يخاطب فيخته الشعب الالماني بلغة قومية تحريضية قائلا: «ان نكافح ضد تهديم اكثر طموحاتنا نبلا فهي ما زالت يمكن لها ان تولد فينا، ان نجابه اذلال امتلاكها بالوسيلة الوحيدة الباقية لنا بعد ان حاولنا كل الأخريات.. هذا ما تطرحها خطاباتي. انها تحرضكم على ان تغرسوا في الأرواح عميقا وفي قوة، بفضل التربية الوطنية الحقة المبنية على الإيمان بخلود شعبنا، وهو ضمانة خلودنا نحن». الى جانب فيخته، استكمل الالماني كلاوزفيتز التنظير للنازية ووضع الأسس العسكرية لها، وهو ما يوصف انه استاذ هتلر الأكبر. تصل النازية الى ذروتها في طروحات هتلر خصوصا في كتابه «كفاحي»، الذي يمثل «خليطا من حديث العنف والكراهية وتهديدا مباشرا للانسانية». انه كتاب يعرض صراحة احتقاره للشعوب غير الالمانية ويؤلّه العنصر الآري الذي هو الأصل للشعب الجرماني.
يعطي الكاتب العرب موقعاً في كتابه لجهة مساهمة لهم في انتاج الفكر السياسي، وان لم يكن بمستوى ما انتجه الفكر الغربي. يفتتح موسوعته بكتاب «السياسة المدنية» للفارابي الذي يقول عنه باول كراوس»ان النظرية السياسية تهيمن على فكر الفارابي الى درجة ان بقية الدراسات الفلسفية – ولا اقصد فقط الالهيات والاخلاق وعلم النفس فحسب، بل كذلك الطبيعة والمنطق – تتبع لتلك النظرية وتخضع لها». اما كتاب «كليلة ودمنة» لابن المقفع الذي يعتبر من ألمع أصحاب الفكر السياسي في التراث الاسلامي، فيتميز بمحاولة اضفاء شيئ من الروح الأخلاقية على الممارسة السياسية، وهو أمر يخالف السائد في عصره. ويشير الكاتب الى كتابات قاسم امين ودوره النهضوي دفاعا عن المرأة وحقوقها، في زمن لم يكن ليهضم مثل هذه الدعوات. اما عبد الرحمن الكواكبي، فهو بحق من منتجي الفكر السياسي الذي ما يزال حيا، خصوصا في اعتباره ان الانحطاط العربي وتخلف الشعوب العربية يعودان الى الاستبداد المهيمن على هذه الشعوب، وان الديموقراطية هي السبيل الوحيد لخلاص هذه الشعوب ودخولها في ركاب التقدم.
من الصعب إيفاء موسوعة العريس حقها في العرض، لكنها تشكل مرجعاً لكل من يرغب في الاطلاع على تطور الفكر السياسي منذ عصر النهضة حتى اليوم، لما توفره من مادة فكرية غزيرة حول هذا التراث الانساني.