بقلم: الأديب مازن عبّود
تعرّف “برهوم” على العم “الياس”. وقد كان كهلا لغزاً يعيش في عليّة. ينطلق منها وإليها يومياً. أدركه يتمتم أشياء من قصص ومزامير سكنت حارته القديمة التي ما انفكت تنطر بوابة بعلبك المهجورة لسوق “كفرنسيان” الغافي. قيل إنّ العم “الياس” كان ينتظر شيئاً. وقيل إنّ انبياء العهد القديم كانوا يجتمعون عنده. فيصنع وإياهم الأخبار والقصص.
أحبّ برهوم أن يلتقيه فيستمع إلى قصصه وهلوساته. فداوود الملك، مثلا، بحسب العم “الياس” وافى إلى قلاية يوحنا المعمدان في عربة إيليا النبي النارية، كي يهديه نجمته التي ما زالت معلقة على بوابة دير مار يوحنا الخارجية.
كان العم “الياس” يعتبر أنّ الناس تقدس الأرض. وقد أمر صبيان “كفرنسيان” بتقديس الأرض التي يسيرون عليها، ففي “كفرنسيان” شياطين كثيرة. وأغرب ما تعلمه منه أنّ في تلك النواحي قديسين منسيين. وقد قال له: “تحديك أن تكتشف القديسين وتتزود منهم بالبركات قبل أن يرحلوا. فقداسة أولئك البسطاء لا يعلنها أساقفة أو بطاركة أو بابوات. يبقون مجهولين. يبقون قيد النسيان إلى حين قدوم الديّان. فكم من الذين أعلنت قداستهم ليسوا بقديسين؟؟ وكم من المنسيين هم مغبوطون لدى ربهم. أعلم أنّ الناس لا تعترف بخصال أحد ولا تكرم عادة الموتى. أترى تعشق “كفرنسيان” أبرارها وهم موتى وتخشاهم وهم احياء؟؟”
لاحظ “جبور” عضو المجلس الاختياري أنّ “برهوم” من حارة “الواوية” يتردد على الكهل المسحور. فأبلغ والد الصبي، كي لا ينجرّ الولد إلى عوالم غير معلومة. فنهر الوالد الولد، طالباً إليه أن يلعب مع أولاد جيله. إلا أنّ ذلك لم يغيّر في الموضوع شيئاً. ففضولية “برهوم” طغت على الطاعة عنده. وما كان معلوماً أضحى مستوراً. وأجمل ما سمع من الكهل حول القديسين المنسيين، كان قصة “حلا” التي عاشت في منزل أضحى مهجوراً، وما زال يقبع على أمتار من بيت جده.
قال له: “كان في “كفرنسيان” أرملة جميلة اسمها “حلا”. خسرت زوجها باكراً حتى قبل أن يولد ابنها. فأضحت مقطوعة من شجرة. عملت ليل نهار كي تعيل ابنها.
وكان أن داهمها الظلام عصر يوم كانوني. فضلّت دربها بينما كانت تجمع الحطب والزيتون المتبقي في البراري. علقت في العتمة لساعات. حتى شعرت بأنّ الموت يتربص بها. وما كانت مستعدة له. قيل إنّ ملاك الموت وافاها سائلا نفسها. فنهرته كي يرحل، ويمهلها حتى يكبر ابنها. فيصبح قادراً على تدبر أمره. فكان أن رحل. وحصد نفس جارتها. وأرسل الله لها ملاكاً من شهب أنار دربها حتى عتبة الدار. وما زالت تعرف الدرب التي سلكتها بدرب النور إلى غاية هذا التاريخ.
كانت “حلا” فقيرة فما اكترث بها الخوري. كانت غير متعلمة. لذا، أقوالها لم تكن تؤخذ كثيراً على محمل الجد في الصالونات. إلا أنّ من عرفها أضحى يطلب شفاعتها وينال ما يشتهيه. وقد كانت توافيهم كي تضيء عتمات لياليهم الحالكة.
تلا العم “الياس” قصته ورحل عشية ذلك اليوم. ولم يكن يعلم أنّ “جميلا” ابن الخوري ما كان يتقن القيادة في الضباب. فكان أن لطمه وأرداه. مات الكهل الغريب سريعاً. فقد استدعته ملائكته قبل أن يحدث الطوفان أو أن يمطر ربه السماء على الناس في “كفرنسيان” كبريتاً وناراً.
هذا ومازال “برهوم” يفتش عن القديسين الأحياء كي يتبرك منهم، أولئك المنسيين الذين لن يعلن قداستهم بطريرك أو بابا، بل يبانون على البشرية يوم قدوم الديّان. يبانون مع البوق حين يستفيق الموتى من قبورهم.