بقلم: الباحث خالد غزال
اخترق مفهوم السعادة كلّ الثقافات في العالم منذ القدم، ارتبط بالفلسفة والدين والأخلاق، وكانت للسعادة مقوماتها في كل مرحلة تاريخية، كما اختلف المفكرون في تعيين مبادئها، بالنظر الى ان تاريخها ليس تاريخاً عادياً، لكونه يتعلق بحالة الإنسان عموماً، ولأن المتع والرغبات وكل ما يجري تصنيفه تحت فكرة السعادة تبدو متضاربة مع بعضها بعضاً.
هكذا تتراوح الاسئلة حولها: هل السعادة هي اللذة؟ ام هي حالة من الانسجام بين الأهداف والرغبات؟ وهل تكمن السعادة في التأمل العقلي كما يشير ارسطو، ام انها تكمن في حالة السكينة الروحية كما يقول الفلاسفة الرواقيون؟ يزيد من أهمية الموضوع، ان جميع المدارس الفكرية والفلسفية، إضافة إلى الأديان بمختلف انواعها، كانت ملزمة إعطاء حيّز لمفهوم السعادة وتجلياتها، وهو أمر قد يكون متناقضاً بين فلسفة وأخرى. هذا التاريخ المتواصل للنقاش في السعادة ومفهومها لم ينقطع حتى اليوم، ولا يزال يشكل محور دراسات وأبحاث. في هذا المجال يأتي كتاب «السعادة، مفهوم تاريخي» للكاتب البريطاني نيكولاس وايت ليعطي فكرة مفصلة عن هذا السجال. صدر الكتاب عن سلسلة «عالم المعرفة» وترجمه سعيد توفيق.
يقول ارسطو في كتابه «الأخلاق الى نيقوماخوس» : «لا تصف أيّ شخص بأنه سعيد الى ان يموت». ومثل هذا الكلام يفتح على تفسير السعادة التي تبدأ بوعي كثرة الأهداف التي يرمي اليها الشخص والتضارب في ما بينها، وهو ما انطلق منه افلاطون الذي سبق له وأكد ان لدينا رغبات وأهداف وبواعث متعددة ومتضاربة، بما يفرض علينا التعامل مع هذه الحقيقة.
يذهب فلاسفة الى القول إن الطريقة الفضلى في الاستجابة لكثرة الاعتبارات المتضاربة إنما تتمثل في الاعتقاد أن السعادة يجب ان تكون منسجمة، ولعل افلاطون كان الأكثر وضوحاً عندما يقول في كتاب «الجمهورية» متحدثاً عن الشخص: «لا يسمح لأي جزء منه بأن يقوم بعمل اي جزء آخر، او يسمح للأجزاء المتنوعة فيه بان تتداخل بعضها في عمل بعضها الآخر. فهو ينظم ما يتعلق بخيره الخاص، ويتحكم في نفسه. انه يضع نفسه في نظام، ويجعل أجزاء نفسه منسجمة، مثل نغمات محددة في تأليف موسيقي. فهو يربط هذه الأجزاء معاً، وما بينها من أجزاء اخرى. وعلى رغم انه ينطوي على كثرة، فانه يصبح واحداً تماماً، معتدلاً ومنسجماً».
ما بين افلاطون وأرسطو والفلاسفة الرواقيين في الازمنة القديمة، يذهب الفيلسوف الالماني نيتشه، في العصور الحديثة، الى الاعتبار انّ تصادم الرغبات قد يكون أمراً جيداً، وهو يرى ان السعادة هي «سعادة الراحة وعدم الانزعاج، وحالة تخمة الاشباع، والوصول الى حالة من الوحدة»، وهو بذلك يعارض فهم افلاطون الذي يقرن بين الانسجام والسعادة.
تعتبر الرؤية القائلة إن السعادة هي المتعة، او مذهب اللذة، هي واحدة من اكثر التفسيرات المقبولة على نطاق واسع لمعنى السعادة. لكنّ المذهب هذا تعرض الى نقاش واسع وجرى التركيز على نقائصه. يشير الكاتب في هذا المجال الى «ان الفلاسفة يريدون ان يعرفوا حقيقة السعادة من خلال التفكير بالكيفية التي نتدبر بها الأمر فعلياً، او الكيفية التي ينبغي ان نتدبر بها الأمر. وكتجسيد للتفكير الذي يتم من خلال هذا الموقف، فإن مذهب اللذة الكمي يرى في ما يتعلق بالسعادة ان نفعل – وينبغي ان نهدف الى – أكبر قدر ممكن من اللذة. لكنّ مذهب اللذة الكمي يبدو غير قادر على الوفاء بهذا المطلب: فهو ليس قابلاً للتصديق سواء باعتباره تفسيراً لما نفعله حينما نتدبر الأمر، او باعتباره تفسيراً للكيفية التي ينبغي بها ان نتدبر الأمر». إلا أنّ التفكير في الكيفية التي نتدبر بها الأمر يعني فعلياً التوقف امام الخيارات والاعتبارات والأهداف وفق الصيغة التي تقدم بها نفسها لنا. وهي قضايا غالباً ما تكون معقدة، وان قدمت نفسها بصيغة لطيفة. وهذا ما يجعل مذهب اللذة الكمي مثيراً للشكوك نظراً إلى التضارب احياناً بين كثرة اهدافنا ورغباتنا وبين نمط القيم التي نحملها ومدى ملاءمتها لهذه الرغبات.
تفتح النقطة السابقة على مسألة السعادة مترجمة بكلمة اللذة وعلاقتها بالأخلاق. في سياق التفسيرات العادية المتداولة، تشير اللذة الى مجرد اشكال معينة من حياة اللهو، وتشير أيضاً الى المتعة الناجمة عن الأكل والشراب والجنس وما الى ذلك. هذه النظرة أضفت على مذهب اللذة سمعة سيئة عند مَن لديهم اعتراضات أخلاقية على اللذات من هذا النوع، وفق ما يشير اليه الفيلسوف اليوناني شيشرون بالقول: «اذا كانت اللذة طاغية، فعندئذ لن تنحى جانباً الفضائل الكبرى فحسب، بل انه سيكون أيضاً من العسير بيان السبب في ان الرجل الحكيم لا ينبغي ان تكون فيه الكثير من الرذائل».
في العصور الحديثة، اتخذ النقاش حول السعادة ومقوماتها حجماً كبيراً بالنظر الى اختلاط النقاش الفلسفي بالمسائل الدينية وانزياحها الى المفاهيم الإخلاقية. ومن هذه الجدالات هي تلك التي خاض بها الفيلسوف الالماني ايمانويل كانط الذي كانت له رؤية ترى أن السعادة بمعنى ما ليست مفهوماً متماسكاً، وان التقييمات العقلانية ينبغي ان تكون لها علاقة بالسمات الأخلاقية، سواء ما يتعلق بإرادة الفرد او بأفعاله. لقد وضع كانط مخططاً متقناً، من وجهة نظر فلسفية، لتفسير وتبرير فكرته القائلة إن الإلزام الأخلاقي يمكن ان يكون مترابطاً من الناحية العقلانية «بشكل مستقل تماماً عن توقع الثواب على الاستقامة والعقاب جزاء السلوك غير القويم». وركز آخرون على التضارب بين السعادة ومبدأها المركزي اللذة وبين القيم الاخلاقية، وذلك خلافاً لما كان يقول به اليونانيون القدماء الذين لم يروا ان الاخلاق شيء متميز عن سعادة المرء او انهما أمران متناقضان او متضاربان.
لن يتوقف السجال حول السعادة ومعناها وقضاياها وكيفية تحقيقها، ولكن بعيداً من النقاش الفلسفي المعقد كثيراً والمفتوح على قضايا ماورائية، فان مفهوم السعادة والسعي الى الحصول عليها، امر موجود لدى الانسان العادي بالمقدار نفسه الذي يهتم به الفيلسوف او عالم الاخلاق. هنا تبدو السعادة وفهمها مسألة نسبية، ما قد يراه فرد ما سعادة في مجال معين، قد يراه آخر بؤساً، مما يعني ان تعيين السعادة وتحديد معناها امر مختلف بين مجتمع وآخر، وبين قيم في مرحلة تاريخية واخرى في مرحلة متغيرة. كل انسان له فلسفته في معنى السعادة التي يطمح في الوصول اليها. على رغم ذلك يشكل كتاب «السعادة، موجز تاريخي» فرصة للتعرف الى نقاش واسع امتد منذ اليونان القديمة ولم يتوقف حتى الزمن الراهن.