المهرّج الحزين وواهب الفرح

بقلم د. ناتالي الخوري غريب

Dr-nathalie-khoury-4ربّ صورة تختزل مئة صفحة، وربّ صمت يصرخ كلّ دقيقة، وربّ ضحكة تخفي ألف دمعة، والزمن سيّال وجارٍ يذوب بين أيدي حامليه، والفرح قناع صبور، يحمي الخوف من الظهور…

قد تكون الصورة مركّبة، لكنّ فنيّة تركيبها كما في كلّ الصور التي يقوم بإعداها جورج طرابلسي في الصفحة الثقافيّة اليوميّة في جريدة “الأنوار”، وإتقان دلالاتها الفكريّة بما يتلاءم والموضوع الذي يقابلها للشاعر، بطريقة فنيّة تجعلها أكثر قدرة على التعبير من قصائد ومعلّقات…فالعبرة في اللمحة والتقاط الومضة واختزال الفكرة..مدركًا أنّنا في عصر السرعة والصورة المعبّرة بدلًا من مجلّدات لا تتقدّم عليها..

لكنّ الصورة التي بين أيدينا والتي تشّدك إلى الغوص على أبعادها هي رموز أخّاذة في التعبير عن العمق الحقيقي للحياة والزمن، في سيرة ذاتيّة إنسانيّة في تلازم الدمعة والابتسامة، الألم والفرح، الصمت والصراخ، الخفاء والتجلّي، وتحدّي الزمن، إمّا خوفًا منه، وإمّا هربًا من دقّاته المعلِنة ابتداء الصعود إلى المسرح والنزول منه، بين فتح الستارة وإغلاقها….هي الحياة في تزييف فصولها بين الواقع والمرتجى منها ورقابة الزمن الصارم.

فلوحة الساعة الرخوة المأخوذة من الرسام الإسباني “سلفادور دالي”، والمتدليّة على يد إنسان، جعلها طرابلسي صغيرة على يد إنسان يحسب للآخر خطواته في ساعاته وثوانيه الجارية..traboulsi

وقد جعل المهرّج يدير ظهره عليها غير آبه بها، فقد تكون صورة المهرّج التي اعتمدها جورج طرابلسي، مغمض العينين عن عيون حزينة تخفي دموعًا مدرارة تخبّأت بألوان الفرح الصارخة، والرصانة الهادئة التي تخفي براكين تشتعل في دواخل عوالمه من فوضى الذاكرة والحواس والطفولة وأسرار الوجود والحيوات المتلاحقة والمجهول الآتي من الزمن في حال من اللاستقرار…. في مواجهة وجه أنثوي يقفز الحزن من عينيه، ويدير عليه ظهره أيضًا، يرافقه في مسرحيّة الحياة مع أقنعة مبهرجة بألوان الفرح، قد تكون المرأة-المهرجة، رمزًا للحياة وما فيها من شهوات، رمزًا للأماني المشتهاة، للفكرة المقنّعة بزيف المواقف واللحظات، ولذّة الكشف عمّا تلطّخت به من كثيف المزايدات والمهاترات، لممارسة ما قد يُظنّ أنّه خطايا في خبايا الأمنيات الدفينة والظاهرة، او تلك المسجونة في اللاوعي بأوامر من موروثات عقيمة تبجّل الكبت والحرمان…وتبقى متعة الحصول عليها بأحلام اليقظة…لأنّ وجهة نظرها في مكان آخر وربّما في عالم آخر….وبين كينونتها في عالم الحسّ او الخيال….يعيش المهرّج في تيه الحقيقة والزيف……والخلاص بإعلان انتهاء المسرحية…

فهل أراد جورج طرابلسي أن يقول لنا أنّ قصّة حياته كما حياة كلّ إنسان هي مسرحية كبرى أبطالها مهرّجون يظهرون غير ما يبطنون، يتألّمون ولا يصرخون، يسهمون في إسعاد الآخرين ودعمهم وحبّهم ولا من يبادلهم، يمضون في لعبة لا يعرفون متى تبدأ ومتى تنتهي، لأنّ الإنسان كائن زمنيّ يذوب في الزمن، والعقارب محطّات أمام مرايا لا يجرؤون على خلع القناع أمامها لهول ما قد يرون؟؟!!

قد يكون رسم هذه اللوحة عند البعض ضربًا من الجنون، لكن في محاولة فعلية للتدقيق في تفاصيلها، سيجد كلّ امرئ فصولًا من حياته فيها، أو في زاوية مخبوءة من زواياها…وهنا يكمن الابداع في تواطؤ صانع اللوحة ومشاهدها لمعرفة ما يخفيه تحت القناع من أفكار قد تبقى سرًّا من أسرار يحتفظ فيها كلّ إنسان لذاته كي يحفظ نفسه من لقب”المجنون”….

اترك رد