بقلم: الأديبة رضوى عاشور
قرأ العرب غابرييل غارسيا ماركيز ككاتب عربي ليس بعيداً عن إرثهم العظيم من “ألف ليلة وليلة” إلى حياتهم التي تزداد غرائبية يوماً بعد آخر. ومازلت أذكر تلك العلاقة الحميمة التي ربطتني مع نصوصه في قراءاتي الأولى حين كنت شاباً صغيراً، كنت أشعر به قريباً مني، سأراه في مقهى مدينتي وأتبادل معه تحيات الصباح، وأقول له كما يقول له مواطنوه في كل مكان من العالم عن أشياء توجعني من أفعال الديكتاتوريين الذين لايموتون في خريفهم، إلى العزلة التي تحكم حياتنا، إلى قصة موتنا المعلن، بحيث لم يتوقف الموت العلني في بلدي منذ ثلاث سنوات ومع ذلك ثمة من يتساءل: من أين تأتي كل هذه الجثث؟
علمني غابرييل غارسيا ماركيز قوة الانتماء إلى الخيال كشيء أساسي لي كسارد، لأنّ سرداً من دون خيال ميت لامحالة . وعلمني أن لا أخاف حين أقول إننا ننتمي إلى الجذور ذاتها وإنّ شهرزاد، جدّتنا، منحت خيالها وحكاياتها بالتساوي لكل كتّاب العالم. لكنه ظلّ هو الكاتب الأمهر، بمزجه هذه الخطلة العجيبة كلها بقوة سرد مدهشة وعمق إنساني فريد في الكتابة الروائة لينتج نصوصاً يمكن أن تربح معركتها مع التاريخ ببساطة. لم أكن أنتظر موت ماركيز لأن الخرافة لا تموت. نعم كان أحد المعلمين الذين علموني الكثير دون أن ألتقيه!
خالد خليفة
ماركيز هو أولاً نقطة تحوّل جوهرية في الرواية العالمية، كاتب حرّ أطلق جماح خياله وصنع عوالم غرائبية مثيرة من غير أن تنفصل عن واقعه وعن ذاته وعن مخيلته المشبعة بحكايات بيئته وأساطيرها. تأثّر ماركيز فكان أدبه وليد ثقافة مجتمعه والثقافة الإنسانية جمعاء. بنى ماركيز عالمه الروائي الخاص مستنداً إلى الموروث الثقافي اللاتيني، وقد عرف كيف يُعيد إنتاج هذه الذاكرة الجماعية برؤية فنية جديدة. كان تأثير ماركيز كبيراً في كتّاب الأدب وقرّائه في العالم. أعمال ماركيز وعّت الكتّاب على واقعهم وعلى أنّ الخيال لا ينفصل عن الواقع، بل هو إعادة قراءة هذا الواقع. ساعدنا ككتّاب عرب في أن نتجاوز أنفسنا ونقيم علاقة جديدة مع الواقع، المرجع الحيّ للرواية. وهذا التأثّر البالغ بأدب ماركيز لا يعني التقليد، فمن قلّد ماركيز فشل. لكنّ التأثر بأدب الآخرين هو أمر مشروع وضروري لكلّ كاتب لكي يصنع في النهاية عالمه الخاص. حلّق الروائي الراحل في عوالم غرائبية واتكأ على الخيال ليُقدّم إلى قرائه رؤية جديدة إلى الواقع نفسه.
علوية صبح
من المرجح أن تكون روايات غابرييل غارسيا ماركيز من بين الكتب الأجنبية الأكثر انتشاراً في العالم العربي رغم الملاحظات على ترجماتها. والإغراء الأساسي في رواية مثل «مئة عام من العزلة» هو قدرة المؤلف الراحل على تحويل قرية معزولة في أميركا اللاتينية الى حدث أدبي عالمي، ما يشجّع المقبلين على الرواية – وهم متكاثرون في عالمنا العربي – على النهل من مطارحهم ومروياتهم «العميقة» لصنع عالمهم المتخيل وأسلوبهم الأدبي. يبقى أن ماركيز قد يكون روائي النصف الثاني من القرن العشرين، غزا الدنيا بشخصياته وجعل سيدة ألمانية قرأت حكاية ماكوندو تتساءل من أين يعرف هذا الكولومبي قريتها في ويستفاليا كي يصفها بهذه الدقة.
جبور الدويهي
لا بدّ من أن تكون قراءة كتاب مثل «مئة عام من العزلة» أو «خريف البطريرك» من القراءات المؤسسة لأي قارئ، ولأي شخص يمتهن الكتابة الروائية. شخصيات ماركيز دخلت التاريخ تماماً كما دخلت قلوبنا واستقرّت في أذهاننا. ورغم أنّ هذه الشخصيات تنتمي إلى الواقعية السحرية التي تجعل من البطريرك قادراً على أن يرى أثناء نومه مثلاً، نشعر بأنّ هذه النماذج موجودة فعلاً في واقعنا العربي. أدب ماركيز جعلنا كقرّاء عرب نعي أكثر تفاصيل موجودة في واقعنا. جعلنا ننتبه إلى قرانا، إلى دواخلنا، إلى الأنظمة الديكتاتورية التي تتحكم بمصائرنا. إنّ الواقع العربي لا يختلف كثيراً عن واقع أميركا اللاتينية وهذا ما يُقرّبنا أكثر إلى أدب ماركيز الذي أسّس لأدب أميركا اللاتينية في وقت كانت تعاني من إرهاصات وتخبطات. علّمنا في مرحلة ما أنّ في إمكاننا تناول موضوع الديكتاتوريات السياسية بعيداً من التعصب الإيديولوجي الذي كان يقتل كتاباتنا عنها. فتح ماركيز للمجتمعات المكبوتة التي تحضر فيها الخرافة والسحر والشعوذة أفقاً إنسانياً عميقاً لا ينفصل عن الخيال. لذا أقول إنّ ماركيز اكتشف قارّة مجهولة في الأدب، فتح الباب عليها لكي يدخلها من يشاء. وأعتقد أنّ الكتّاب العرب وجدوا – أو ربما سيجدون – في ماركيز الأب المؤسس لنوع من الكتابة الروائية التي تشبهنا إلى حدّ كبير.
نجوى بركات
أرى أنّ من المفترض أن ننظر إلى ماركيز خارج دائرة ما هو شخصي، وأعني هنا أثره الشخصي في الكتّاب، لأنّ الأثر الأجمل هو ما تركه ماركيز في قلوب الفقراء حول العالم. أنا أعتبره واحداً من أجمل صنّاع الحياة الذين استطاعوا بإبداعهم أن يُلوّنوا الحياة ويُعيدوا فهم الإنسان لواقعه ومساعدته على تحمّل ألم الحياة وجورها. قدّم ماركيز في «مئة عام من العزلة» أو «الحبّ في زمن الكوليرا» أو «عشت لأروي قصصي» وفي غيرها من الكتب رحيق تجربة شخصية غنية لرجل اختبر الحياة بآلامها وأفراحها، بأوجاعها ومسرّاتها… كتب ماركيز عن الحبّ والحرية والسياسة والإنسان والمجتمع، وفي كلّ ما كتبه نجد شيئاً ما يُلامس حلم الإنسان بغد مشرق. لا نبالغ إن قلنا إنّ ماركيز حضّ القارئ على خلق خياله المبدع. فالكتابة عنده هي مزاوجة بين الواقع والخيال. ففي «مئة عام من العزلة» تخيّل عوالم أخرى، بحيث أوجد مدينة خاصة بشوارعها ومدنها وسكانها، ومن هذا الخيال الكبير والمجنّح كان يغترف ماركيز لكي يُقدّم للقرّاء مائدة غنية بما لذّ وطاب من الموضوعات والقصص والصور. وأنا لا أسميه صاحب الواقعية السحرية بل الواقعية الحقيقية التي استطاعت أن تؤثر في الكتّاب والروائيين في كل مكان.
طالب الرفاعي
مع أنّه ينتمي إلى أميركا اللاتينية، وهو بعيد كل البعد عن فلسطين، كان الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز من أكثر الأدباء الذين تضامنوا مع الشعب الفلسطيني، والذين كتبوا ودافعوا عن هذه القضية المحقة.
ففي الثمانينات، حين كانت الصهيونية تفرض سيطرتها على وسائل الإعلام العالمية وعقب حصوله على جائزة نوبل للآداب (1982) استأجر صاحب «مئة عام من العزلة» صفحة في صحيفة «ال اكسبرسو» الإكوادورية- دفع ثمنها من حسابه الشخصي – ليكتب فيها مقالاً تضامناً مع الشعب الفلسطيني ودفاعاً عن القضية الفلسطينية. ومن المؤكد أنه قام بذلك بعدما حاول نشر المقال في صحف عدة جابهته بالرفض.
فقدانه خسارة كبيرة للأدب عموماً، وليس الأدب الكولومبي فقط، لكنّ العزاء أن أعماله ستبقى وستظل جزءاً مهماً من ذخيرة الأدب العالمي.
بهاء طاهر
رحل الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز بعدما عاش زمناً فسيحاً كفاه ليروى قصصاً عن مدينته وأهلها، عن ذاته وأحلامه، عن عشاق وموجوعين، حتى غدا هو نفسه أسطورة مثل الأساطير التي صاغها لقرائه لعلهم ينظرون إلى الحياة عبر نوافذ جديدة أكثر تسامحاً وتعاطفاً وحباً، حتى لو كان ذلك في أزمنة الحروب والطواغيت والكوليرا…
خبر رحيله أحزن العالم، وبخاصة القراء الذين عشقوا حروفه وإبداعه الأصيل والمجدد والفانتازي ذا الروح الساحرة التي استطاعت أن تلهم الآلاف من كتاب القصة والرواية حول العالم. وعلى رغم الرحيل، سيظلّ ماركيز حاضراً وستظل الساحات الثقافية تقرأ أعماله وتناقشها وتستمتع بأسرارها وأعماقها وعوالمها الغنية بالجمال والعبقرية والجاذبية الفكرية والفنية الآسرة.
فؤاد قنديل
في أيار (مايو) 1974، أهدتني صديقتي أنّا إيزابيل، رواية «مئة عام من العزلة» بترجمتها الإنكليزية. قرأتها بعد شهور. ولما أتممتها حدثت لي أمور ثلاثة، أولها أنني حين فرغت من صفحتها الأخيرة تساءلت ما الذي أفعله الآن؟ عدت إلى صفحتها الأولى وبدأت في قراءتها مرة أخرى. كنت بدأت في كتابة مُسَوَّدة روايتي الأولى. مزقتها وألقيت بها في سلة المهملات. ولم أقرب الكتابة تسع سنوات. قررت أنني غير مؤهلة للكتابة. أما الأمر الثالث فكان درساً في مجال الجنس الروائي.
كان نص ماركيز يحرر هذا الجنس من قيود واقعية القرن التاسع عشر، وواقعية مطلع القرن العشرين الحداثِيّة. كانت «مئة عام من العزلة» تعيد الاعتبار إلى الحكاية، وللروائي بوصفه حكاءاً، قادراً على استمالة قاعدة واسعة من القراء، وعلى المزج بين السياسي والتاريخي وشطح الخيال. لاحقاً تتبعت خطاه وقرأت كل نصوصه، إلى سيرته الذاتية مروراً بقصصه القصيرة. وقرأت «قصة موت معلن» وكلمت نفسي: يا إلهي لقد قلب شكل الرواية البوليسية كفردة جورب فأعلن عن الجريمة والقاتل والقتيل في سطورها الأولى ولم يعقه ذلك عن مواصلة الحكي.
يتصدّر الخيال في نصوصه ويجمح كما في الأساطير، ولكن على عكس الأساطير تراه مضفوراً بمشاهد واقعية تنقل لك تفاصيل الأزقة المتربة، والقيظ المنهك، والقرى النائية. يمكن بلا تعميم أو مبالغة القول بأنه كاتب الرواية الأكبر في القرن العشرين. ويمكن اعتماد ما قيل بأنه حين نشرت روايته الأولى «مئة عام من العزلة»، غدت له بين ليلة وضحاها شهرة لاعبي كرة القدم. أصبحت الرواية بين يديه فناً ديموقراطياً لا لتعدد الأصوات فيها فحسب، بل لأنها صارت مقروءة من جمهور واسع، تخاطبه وتمتعه.
******
(*) جمع الشهادات: مايا الحاج (بيروت) وعلي عطا (القاهرة)