بقلم: الأب كميل مبارك
دخلنا الزَّمنَ الذي نتعرَّى فيه من كلِّ ما يسترُ كبرياءَنا واتِّكالَنا على قوانا وقدراتنا وعقلنا وهيبتنا. في هذا الزَّمن تسقط الستائِر التي تحجبنا عن حقيقة ذاتنا فنقف أَمام لا أَحد، أَمام الأَنا التي تكشف نفسي لنفسي فأُدرك ما كان غائبًا عن وعيي الكامل وانتباهي لِما في كياني من ضعفٍ ووهنٍ وأَثقالِ تراب، تقف غالبًا في طريق اكتشافي لعَظَمَةٍ وَهَبَني الله إيَّاها فجعلني بإرادته وملءِ حبِّه ابنًا حبيبًا له، لا يُدانيه في القُرْب من قلب الله أَيٌّ من مخلوقاته، حتى الملائِكة.
في هذا الزَّمن، أَقف عُرْيانًا أَمام عَظَمَة الأَلم، فتتازحمُ في خاطري حقائِق، أَراني أَمام كلِّ واحدةٍ منها إنسانًا يكتشف في إنسانيَّته، ما لم يكُنْ يراه في أَزمنة القوَّة والصحَّة والسلطة والمجد الأَرضي، بلمعاته التي تخطف البصَرَ عن حقائِقَ يجعلها الأَلمُ صارخةً: تعالَ وانظرْ مَنْ أَنْتَ فتدرك بعضَ الحقائِق.
لقد أُطفئَت شموعُ الشعانين وذَبُلَ الزَّيتون وأُحرق النَّخيل وتهاوى مجدُ الاستقبال الملوكي، خفيف الخطى نحو بستان الزَّيتون. قِفْ أَيُّها الإنسان واعْتبِر.
أَيّ عظمة ما لمْ تعُدْ تراه إلاَّ دمًا في عَيْنَيْك؟ أَيْنَ الزَّمان الذي خَلَتْ نفسُك فيه سيِّد الزَّمن؟
وكلِّ ديار فرعون وما جادَتْ علَيْك يداه
وكلِّ مقاصر الياقوت والبرْفير والمخملْ
وما أَعْطَتْه أَرض الجان مِنْ أَحْلى ومِنْ أَجملْ
وما أَعْطَت قصورُ الشَّاهْ
يموتُ الكلُّ يا ربَّاه
ونعود من عرس الشَّعانين ندوس الثِّيابَ التي فرَشْناها لمُلاقاة المَلِك، نبلُّها بالدَّمع والتُّراب، ونغرق في عتمة بستان الزَّيتون.
لقد خاب الأَمل وبانت قوَّة الإنسان على حقيقتها سَرابٌ بسراب. إنَّه الآل الذي نراه في الصَّحراء فنعتقده ماءً. نُسرع نَحْوَه ونَهْوي، فإذا الرِّمال تُسابِقُ الرِّمالَ ويسقط حلْم الإنسان الذي أَراد أَنْ يحقِّقَ كلَّ مبتغاه بعيدًا عن ربِّه. يسقط من يتَّكل على قوَّته معتقدًا أَنَّه إله نَفْسِه وسيِّد الكَوْن. يقعُ وتتهاوى حجارةُ الهَيْكل على ما صَنَعَت يداه، ويَنْظُر فإذا به أَمام مدينةٍ لَمْ يَبْقَ فيها حجرٌ على حجر.
ويصرخ الإنسانُ أَيْنَ أَنْتَ يا الله لأَنَّه عرف قيمةَ وَحْدِهِ، عرف أَنَّه من دون الله لا يمكنه أَنْ يفعلَ شيئًا وأَنَّ ما رسمه الله لخَيْر هذا الإنسان أَفضلُ بأَلْفَ مرَّةٍ ومرَّة ممَّا يخاله الإنسانُ خَيْرًا لنفسه. فيدرك حقيقةَ الكلام، ماذا ينفع الإنسانُ لو رَبِحَ العالم؟
ويعرف الإنسانُ أَنَّ الحبَّ وَحْدَهُ قادرٌ على غَسْلِ كلِّ الأَدْران،
ولكنَّ الحبَّ يلزمنا بمعبرٍ أَليم نَدْخُلُه قبل الوصول إلى المَجْد المَوْعود، وحينها نُدرك قيمةَ عطيَّة الله، ونعرف أَنَّ كلَّ خطايا العالم عاجزةٌ عن مَحْوِ هيئَة ربِّنا عنَّا، فيسجد إنسانُنا قائلاً والفرح في عينيه:
أَنا مَنْ قال قد عُريتُ من أَحْلى عطاياك
وقد أَهْدَيْتُ كلَّ النَّاس حبًّا من هداياك
أَنا ما زلتُ في دُنْيايَ وَهْجًا رامَ دُنْياك
ولا أَشْتاقُ في مَنْفاي يَوْمًا غَيْرَ لُقْياك
أَنا ما زِلْتُ رُغْمَ الوَحْل أَحملُ وَهْجَ عَلْياك
وما عُريتُ رُغْمَ الوَحْلِ مِنْ أَحْلى عطاياك.
فاقبَلْني اللَّهمَّ مَعَكَ في هذا الزَّمن لأَعرفَ بَعْضًا ممَّا عانَيْتَ لأَجْلي وأَتَمَجَّدُ بحبِّكَ يَوْمَ القيامة. آمين