العصور المنسية في العصور الذرية (*)

بقلم: الباحث حنا عبود (*)

“الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية”
(مزمور 118)

hana-aboud-1البضاعة التي كانت كاسدة عند الإغريق، وعند غيرهم أيضاً، صارت رائجة في عصرنا “الذري”، فلم ينج أديب أو شاعر أو فيلسوف من القيل والقال، حتى أن الشائعات حلّت محل المعطيات، والقشور محل الجذور. فهناك أحكام مبنيّة على ما لا يفيد فكراً ولا يقدم جمالاً ولا يجني ثماراً. خذوا أيّ اسم، من العرب أو الإفرنج واطلعوا على ما كتبوا عنه في عصرنا الذري، لتجدوا ما يشبه الإدانة لتصرفه هذا التصرف أو ذاك. إدغار آلن بو وبودلير والأعشى وقيس وجميل وأبو نواس وسافو وجورج ساند ومي زيادة وموليير وأوسكار وايلد… هل نعدد جميع الأعلام؟ كلهم صدرت بحقهم “أحكام” من نقّاد العصر الذري، حتى أن بعضهم لم يجد إلا العقد النفسية يرمي بها نزار قباني.

لم يكن النقاد والكتّاب ومؤرخو الأدب، قديماً، يتوقفون إلا عند الضروري في سيرة أديب أو شاعر أو فيلسوف أو فنان. كل السير القديمة التي وصلتنا عن هؤلاء كانت عفوية، بمعنى أنها طبيعية لا يرمي صاحبها إلى الحط من الشخصية أو إعلاء شأنها. فلم نقرأ ضغينة فيما كتبوا عن سافو أو سقراط أو بندار أو أبي نواس أو ابن المعتز أو البحتري… كل شيء كان يسير بما يشبه العفوية، إلى أن أطلّت عصورنا الذرية التي تسرع إلى تشريح كل شيء، حتى تصل إلى “ذرته” كما تزعم، مثلما وصلت إلى نواة الذرة وأثبتت بهتان ما قاله ذرّيو اليونان عن الجزء الذي لا يتجزأ، مع أن كثيرين يخالفون هذا الرأي ويصرّون أن دائماً هناك جزءاً لا يمكن تجزئته، وإن أمكن التحكم فيه. يمرّ القارئ بسيرة من السير التي كتبها القدامى، فلا يشعر بالتصنيع في صورة صاحب السير، فلا يجد في السيرة ما يثبت شذوذها، إنه ينساها ويتجه إلى إنتاجها الجمالي.

هذه الصور المنسية عادت إلى الظهور، بل جرى التركيز عليها، باعتبارها الصور الأساسية الكامنة وراء كل عمل فني أو فكري أو أدبي أو فلسفي، بل حتى وراء كل عمل علمي، فكأن الإبداع وليد الشذوذ، وكأن السلوك السيكوباتي مهاداً أولياً للإبداع. وقد بدأت تباشير هذا الاتجاه في القرن الثامن عشر، وبلغ القمة في القرن التاسع عشر. وفي منتصف القرن العشرين سعت البنيوية إلى إعلان موت المؤلف والتركيز على النصّ والبحث عن “ذراته” انسجاماً مع عصرنا الذري، ولكن من دون جدوى، فقد عاد “المحللون” أو قسم كبير منهم، إلى الإتجار بسيرة الفيلسوف والأديب والشاعر، فيبحث عن نقاط الضعف، أو نقاط الاسترابة في سيرته الشخصية ويبني عليها الكثير من النتائج.

georges sand

جورج ساند

فتح فرويد باباً يصعب أن يغلق، أو حتى أن يوارب، فامتلأت سيرة الماضين بالعقد النفسية والشذوذ والانحرافات، وراح الكتّاب يتبارون في من يحصل على “لقطة” من سيرة هذا الكاتب أو ذاك. وهكذا تصدّرت الصور المنسية في الأيام الخالية واجهة مجلاتنا وصحفنا وكتبنا… مع أن الأغلب أن ترمي هذه الضجة العابرة إلى تحقيق نجومية تكون هي الأخرى عابرة.

ماذا فعل الإغريق؟

أدرك الإغريق، أكثر من غيرهم، وربما للمرّة الأولى في تاريخ البشر، أن الإنسان كتلة عجيبة غريبة، جعلته الأورفية مركباً من الدم المقدس ودماء الطياطين المدنسة، وحتى لا يلطو كل فرد للآخر ويترصد هفواته أو ما يصدر عنه من أفعال ضارة أو مؤذية، جعلوا معبوداتهم ترتكب من الأخطاء ما يمكن أن نسميه فحشاء، فهل هناك أفحش من زيوس، الذي يلاحق الحوريات ويغتصب الجميلات من البشر؟ ومع ذلك ظلوا يكبرونه. وهل هناك حماقة أكثر ممّا ارتكبه أبوللو مع دافني على ضفاف العاصي؟ وهل هناك جرم أكثر من قتله كورونيس لريبة راودته؟ ومع ذلك ظلوا يطلقون عليه اسم “المشرق” أو “المنير” أو “رجل التنوير”، لأنه كان رب الفنون والفكر والعلم… ولا يوجد معبود لديهم لم يرتكب هفوة أو إثماً. إذن، أي خطيئة يقترفها البشر نجد أمثالها وأشدّ منها لدى الأسرة المقدسة عند اليونانيين.

بهذه الطريقة قطعوا ألسنة تعيير الأدباء والشعراء والفنانين بهفواتهم أو سلوكهم الغريب. فأيّ مأثرة في التسلق على سيرة الآخرين؟ وأي فروسية عندما نذكر هفواتهم؟

ترويج بضاعة كاسدة

البضاعة التي كانت كاسدة عند الإغريق، وعند غيرهم أيضاً، صارت رائجة في عصرنا “الذري”، فلم ينج أديب أو شاعر أو فيلسوف من القيل والقال، حتى أن الشائعات حلّت محل المعطيات، والقشور محل الجذور. فهناك أحكام مبنيّة على ما لا يفيد فكراً ولا يقدم جمالاً ولا يجني ثماراً. خذوا أيّ اسم، من العرب أو الإفرنج واطلعوا على ما كتبوا عنه في عصرنا الذري، لتجدوا ما يشبه الإدانة لتصرفه هذا التصرف أو ذاك. إدغار آلن بو وبودلير والأعشى وقيس وجميل وأبو نواس وسافو وجورج ساند ومي زيادة وموليير وأوسكار وايلد… هل نعدد جميع الأعلام؟ كلهم صدرت بحقهم “أحكام” من نقّاد العصر الذري، حتى أن بعضهم لم يجد إلا العقد النفسية يرمي بها نزار قباني.

may ziade

مي زيادة

هل راجت هذه البضاعة لأن البشرية اتجهت إلى الخالق المنزّه عن كل ما كانت عليه المعبودات الوثنية القديمة، فظهرت لنا أخطاء البشر مستقبحة أكثر ممّا كان يراها القدماء؟ إنها حجة واهية لا نجد لها أثراً عند نقادنا القدامى كالآمدي والجرجاني والعسكري، بل بالعكس، فقد كانوا- في هذه الناحية- أوعى من نقاد الفضائح في عصرنا الذري، ولم يروّجوا بضاعة كاسدة عفّ عنها الإغريق، بل تابعوهم في أحكامهم. فلم نسمع منهم إدانة حتى لمفكري الوثنية من أمثال ديموقريطس أو ديوجين أو أرسطو أو أفلاطون… بل بالعكس استفادوا منهم وجادلوهم بالمنطق والحجة، وأبانوا ما لهم وما عليهم، من دون أن يعيّروهم بوثنيتهم التي تعتبر من من الكبائر دينياً. ونعتقد لو أن أحداً اليوم كتب “الملل والنحل” بدلاً من الشهرستاني، لما جاءنا بغير البضاعة الكاسدة، بينما التزم الشهرستاني موقف الباحث الجاد البعيد عن أي مهاترة أو متاجرة. إن تراثنا اليوم، والتراث العالمي بكامله، يتعرضان للاستهلاك الرخيص.

الجرح والقوس

أدرك هذه الناحية، بصورة دقيقة، الناقد الأميركي إدموند ويلسون فألّف كتاباً بعنوان “الجرح والقوس” عرض فيه لحفنة من الأدباء وانتهى بخاتمة تحمل العنوان ذاته، توقف فيها عند مسرحية “فيلوكتيتس” لسوفوكليس، وفيلوكتيتس هو الجندي الذي لدغته أفعى فتعفّن الجرح، وأزعجت رائحته زملاءه، فتركوه في الغابة، وتابعت سفنهم طريقها إلى طروادة، حيث قال لهم العراف بعد عشر سنوات إنها لن تسقط إلا بقوس هذا الرجل، فاضطروا للعودة والاحتيال عليه ومعالجته. لماذا فيلوكتيتس؟ لأنه يملك قوس هرقل الذي لا يخطئ الهدف. فإذا كان فيلوكتيتس- أي الأديب- معطوباً في قدمه فإنه يظل حجر الزاوية ولا يمكن الاستغناء عن قوسه- أدبه- في المجتمع. إن قوسه أساس النجاح والفوز.

لا نعتقد أن هناك قاعدة أفضل من هذه القاعدة النقدية في التعامل مع الأدباء ونصوصهم. وقد وعى جان بول سارتر هذه الناحية في كتابه الشهير عن “بودلير” وجاراه بعضهم. بل إن “النقاد الجدد” في أميركا وأوروبا شدّدوا أن من الضروري تنحية السير الشخصية والانطلاق من معطيات النص، لأنه وحده القوس الذي يأتي بالنصر.

تجربة مريرة

في معظم الدراسات نقرأ عن الجنون الذي أصيبت به مي زيادة، كأنها نموذج صارخ لشذوذ الأدباء. وقد ظلت هذه الشائعة سارية وبخاصة بعدما انتقلت ميّ إلى لبنان وأودعت “العصفورية” فعلاً. ولمّا سمع بها أدباء لبنان، استقصوا الأمر، فوجدوا أن ابن عمها الذي راسلته من مصر شاكية حالها ووحدتها، فسافر وعاد بها إلى لبنان بعدما حصل على تفويض منها بإدارة ثروتها، هو الذي “أثبت” أنها مجنونة وأدخلها دار المجانين. وبعد مساع مضنية من قبل أدباء لبنان، خرجت مي من المصحّ، وكان لأمين الريحاني الدور الأكبر في مساعدتها والاهتمام بها. ولكنها بعدما عرفت ما عرفت، أضربت عن الطعام، وأصيبت بهزال شديد أفقدها قدرتها البشرية، وجلب لها موتاً مؤلماً. “قوس” مي لا يزال قيد الاستخدام، الآن، من دون أن نلتفت إلى “الأقاويل”.

amin rihany

أمين الريحاني

ليس الناقد شرطيّ مرور يكتب المخالفات بحق العابرين. إن فيلوكتيتس- هذا الذي تُرِك في جزيرة نائية يعيش فيها على ما يرميه قوسه من طيورها- هو نفسه حجر الزاوية في النصر الذي أحرزه الإغريق.

هل لنا أن نسأل؟

إذا كان الأدباء مصابين بكل هذه الأنواع الكثيرة والمختلفة من الجنون والشذوذ والخبل والسكْر والمجون والعبثية، وإذا كانوا خاضعين أكثر من غيرهم للعقد النفسية، وإذا كانت الأمراض العقلية، وما أكثرها! تصيبهم بهذا القدر وهذه الدرجة، فلا بدّ أن يكون إنتاجهم مختلفاً ومتلوناً بلون المرض أو الشذوذ الذي يعانون منه. ولكن الواقع أن الأدباء ينسجون على نول واحد، وإن تعدّدت السبل والأساليب وإن تنوّعت الألوان. لماذا بقيت قصيدة الغزل منذ خمسة آلاف سنة وحتى اليوم هي ذاتها واحدة لم تتغيّر؟ لماذا نقرأ “نشيد الأنشاد” كأنه كتب صباح هذا اليوم؟ ولماذا ظلت قصيدة المديح- سواء قيلت في شخص أم في وطن- هي ذاتها تقريباً منذ أقدم الأزمنة؟ ولماذا لم يتغيّر شعر التأملات في الكون والحياة؟ ألا يعني هذا أننا أمام تقليد صارم، أو “نسق مخيف” كما يقول نورثروب فراي، لا يمكن الخروج منه أو عنه، وإلا صار كلامنا بلا معنى؟

وإذا قبلنا أن هؤلاء الأدباء والشعراء والفنانين والفلاسفة مجانين ومهابيل وسيكوباتيون إلى أبعد حدود السيكوباتية، فلماذا لا نفتخر إلا بهم؟ لماذا لا نذكر سواهم إذا أردنا المفاخرة بحضارتنا؟ وهؤلاء السيكباتيون هم عمدة معرفتنا، فنحن نعرف فيدياس وسافو، ولكننا لا نعرف من عاصرهما من السياسيين؟ والسؤال المحرج هو: لو خيرنا أن نعتز بغيرهم فبمن نعتز؟

سنوافق أنهم مجانين، بأي مفهوم كان، لكنهم مثل الزيزفون، الذي يظن بعضهم أنه يزهر ولا يثمر، بينما يجني النحل منه للعالم أطيب شهد في العالم.

*******

(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق

(*) ناقد وباحث من سوريا

اترك رد