“حليم الفهيم” و”برهوم” و”زكور” والتغيير

بقلم: الأديب مازن عبّود

mazen-1جلس “حليم” الفهيم يقلب الأوراق. وقد عرف في كل “كفرنسيان” بكونه جليس المخاتير ومستشارهم على اختلاف أجناسهم وطبائعهم. “فهم حين يستوون على الكرسي يصبحون جميعاً المختار”، كما كان يقول. وهو قد عرف كيف يتم التعامل مع المختار المتغيّر. وكان يقول إن أقوى وأبلغ وأصعب وأقسى المخاتير هو الفراغ.

حفظ “حليم” من الاشعار الشيء الكثير، واتقن اللغة وآداب هذا العالم، كي يقال عنه إنّه مثقف. فيتهافت عليه الناس. وينال حظوة أمام الإكليروس والشعب المؤمن.  أتقن الشرع فأفتى للمخاتير ومجالسهم كل ما يتمنون ويشتهون من القرارات. وقد تربى “برهوم” على محبة “حليم” الذي علق في ذهنه قدوة. وقد ارتسم في باله انساناً متألهاً. فكلماته ومداخلاته كانت أطيب من العسل. ومحياه كان أنيقاً. كان فخر الطامحين الشباب.

وكان الناس في”كفرنسيان” يربون أولادهم على التشبه بـ”حليم” في محبة المخاتير الذين كانوا يطيعونهم كآلهة. فقد أشيع في كل تلك الأنحاء بأنّ محبة المخاتير وطاعتهم هي من محبة الله. ومن يخرج عن تلك القاعدة يصير كافراً تكويه نار جهنم. فيلعنه “حليم” الفهيم ويحتضنه “زكور”. كان ينظر إلى الناس بعدسة صفاء ولائهم للمختار وليس كفاءاتهم في كل تلك الديار، التي شهدت انتفاضات عدة كانتفاضات “أبو هيثم” و”زكور” التي لم يكتب لها النجاح.

كبر “برهوم”. فأضحى متعلماً ومتمرداً وعاطفياً ومزعجاً. حفظ عن جده أنّ الإنسان هو ابن الله. حتى إنه كان ينادي الآخر “يا ابن الله”. فراح يعمل كي يحرر أهل “كفرنسيان” من معتقداتهم وممارساتهم الخاطئة التي كانت قيوداً وضعوها في أيديهم وأرجلهم كي لا يتحركوا. فيهمدون. ويشعرون أنهم استقروا وصاروا في أمان.

راح الفتى “برهوم” يضج في أزقة “كفرنسيان” مدخلا إليها مفاهيم غربية وغريبة، حول المساءلة. فكان أن استدعى المختار استاذ الرياضيات في مدرسة “كفرنسيان” الرسمية، للسؤال عن المسألة التي يطرحها “برهوم” والتي لم يحلها صف الرياضيات في المدرسة. فكان أن أبلغه أن “المساءلة ليست مسألة رياضيات”،  بل ازمة وجودية يتوجب طرحها على “حليم” الفهيم. وكان الحل بدعوة الصبي المزعج والمتمرد إلى المآدب والصالونات والحانات كي يمسك من بطنه وما تحته وما يحده. فيسهل التحكم به. فطموح “برهوم” الجامح ومزاجيته وعواطفه الجياشة أرطال يجب استثمارها لمنعه من تحقيق هدفه. وراح “برهوم” يكبر في الحجم حتى التقاه يوماً “أسعودي”. وقد كان يمتطي دراجته النارية، مصطحباًً والدته، لرش المسامير في الطرق والأزقة، كي يحرك عجلة مصلحته المتوقفة في اصلاح الإطارات الممزقة. فصرخ به: “أبرهوما كيف ستحلق مع كل هذا الوزن الزائد والثياب واللسان الطنان؟؟ أيعقل أن يزن نسر طناً؟؟ أتريد أن تغيّر؟؟ غيّر حلاسك”. وصدح: “انتبه أنّ الناس قلما يتغيّرون. أراك تخطط أن تزيح “حليما” فتحل محله، يا صاحبي؟؟ يكفي “كفرنسيان” حليم واحد!!! إذهب. استمع إلى خفقات قلبك”. واشترى “برهوم” “سمّاعة طبية” قديمة لسماع خفقات قلبه. إلا أنّ الموضوع كان أبعد من السماعة. فالقلب كان ذاك الذي عرفه المصريون القدامى ودونوه في كتاباتهم. وتكلم عنه الكتاب.

تكلم الله إلى “برهوم” عبر “أسعودي”. و”برهوم” أنصت وسمع. إلا أنه لم يستطع أن يغلب نفسه لغاية اليوم، كي يحلّق. أضحى أكثر إدراكاً لعوراته. فصار أكثر تقبلا لعوارت “أسعودي” وغيره من سكان “كفرنسيان” المصونة. حتى انزعج منه مرضع الأمة العربية حليب الثورة الرفيق المناضل “زكور”. وقد نفض غبار سيكارته مراراً في وجهه معرباً له عن خيبته، قائلا:” خدعتني يا “بربور”. اعتقدتك جرو نمر. فإذا بك هراًً. خدعتني، فالهررة والنمور تنتمي إلى العائلة نفسها وتتشابه في صغرها”.

اترك رد