البابا فرنسيس يكرم “الكفن المقدس” في تورينو في عيد الفصح 2015// بنديكتوس سماه “ذخيرة” صيدا نسجته وطبيب لبناني مرجع عالمي له

بقلم: كلود أبو شقرا

أعلنت إذاعة الفاتيكان (الاثنين 10 شباط 2014) احتمال تكريم البابا فرنسيس للكفن المقدس في تورينو عام 2015. جاء هذا الإعلان بعدما التقى البابا المونسنيور سيزار soura lil kafan 1نوسيليا، رئيس أساقفة تورينو، الذي دعاه إلى المشاركة في المعرض الاستثنائي للكفن المقدس ( من عيد الفصح 2015 إلى 16 حزيران من العام نفسه) في تورينو لمناسبة الذكرى المئوية الثانية لولادة دون بوسكو (1815 – 1888).

أضافت إذاعة الفاتيكان أنّ الوفد التوريني أهدى نسخة من الكفن المقدس إلى البابا فرنسيس بحجمه الحقيقي (4.36 أمتار× 1.13 مترًا). وكان البابا فرنسيس دعا بعد أيام من انتخابه لمشاهدة كفن تورينو أثناء العرض المباشر في 30 آذار 2013. وقال: “هذا الوجه يملك عينين مغمضتين، إنه وجه إنسان متوفى، رغم ذلك ينظر إلينا ويحدثنا. هذا الوجه المشوّه يشبه وجوه رجال ونساء مجروحين من حياة لا تحترم كرامتهم… مع ذلك وجه الكفن المقدس يحادثنا بسلام عميق وكأنه يقول: ثق، لا تفقد الرجاء؛ قوة محبة الله وقوة القائم من بين الأموات تغلبان كل شيء”.

حقيقة الكفن

كانت صحيفة “أوبسرفاتوري رومانو” أوردت أن علماء إيطاليين استبعدوا احتمال ان يكون الكفن مزيفاً، أو انه يعود لشخص آخر وفقاً لما تثيره بعض وسائل الإعلام بين الحين والآخر. وتنوه الصحيفة بأن التأكيد جاء نتيجة أبحاث استغرقت 5 سنوات، استخدمت فيها أحدث التقنيات بما فيها الليزر، وذلك بمساعدة خبراء في الوكالة الوطنية الإيطالية للتكنولوجيا والطاقة.soura lil massih 2

ومع تأكيد الفاتيكان بأن الكفن حقيقي لم يستطع أي من الخبراء تحديد كيفية انتقال ملامح وجه المسيح الى قطعة القماش، إلا بالقول ان هذه معجزة كغيرها من المعجزات التي شهدها المسيحيون في العالم، ومنها انبثاق النار المقدسة سنوياً في كنيسة القيامة بمدينة القدس، تزامنأً مع الاحتفال بعيد قيامة المسيح، وهي نار لا تصيب بأذى ولا تتسبب بحروق لفترة معينة بعد انبثاقها.

كفن المسيح محفوظ في كاتدرائية القدّيس يوحنا المعمدان في تورينو، وفي تشرين الثاني 2000، إثر الانتهاء من العرض العلني الذي أقيم بمناسبة اليوبيل الكبير، أودع الكفن في أريكة خاصّة، ضمن مَذخر جديد، صنعته شركة Alenia الإيطالية للملاحة الجويّة، خفيف الوزن، ذهبيّ اللون، مقاوِم للحريق، فوقه غطاءٌ فاخر، كُتب عليه باللاتينية: “يا إلهنا، إنّنا نُكرّم كفنك المقدّس، ونتأمل في آلامك”.

رحلة عبر التاريخ

ورد في إنجيل مرقس (16 : 1-8) أنّ بعض النسوة، حاملات الطيب، أَتين القبر يوم الأحد لإكمال ترتيبات الدفن، ولكنّهنّ رأين الحجر قد أُزيل عن القبر، فأسرعن يخبرن الرّسل بالأمر. ركض بطرس ويوحنا إلى القبر، فدخل بطرس أولاً، و”أَبصر اللفائف ممدودة، والمنديل الذي كان حول رأسه غير ممدود مع اللفائف، بل على شكل طوقٍ خلافًا لها، وكان كلّ ذلك في مكانه” (يوحنا 20 : 6-7). يقال إن بطرس ويوحنا حملا الكفن وحفظاه بعناية واهتمام.

ماذا حصل بعد ذلك؟ تقول رواية أن أبجر الخامس، ملك إديسّا (الرَّها) الذي عاش في أيّام المسيح، كان مصاباً بالبَرص، ولم يستطع أحدٌ شفاءه. فلمّا سمع بعجائب يسوع، أَرسَل مَن يطلب إليه أن يأتي ليشفيه. لكنّ يسوع لم يستطع الذهاب إليه، فاغتنم الرسل الفرصة، بعد موته وقيامته، ليهِّربوا الكفن من أمام أعدائهم، ويرسلوه، مع تدّاوس الرسول، إلى الملك، كهدّية من يسوع وتذكار منه. ولكي يقدّموه بشكل لائق، طووه أربع طيّات بحجم المنديل، بحيث لا يرى عليه سوى شكل الوجه. تَسلَّمه الملك من الرسول تدّاوس، ولَمّا لمسه شُفي تماماً، فآمن بالمسيح، واعتمد وتبعه كثير من شعبه. حافظ الملك على “المنديل”، ووضعه في مكانٍ خاصّ تكريماً له. أَطلق على “المنديل” تسمية “الصورة غير المصنوعة بيد إنسان”.kafan torino 3

بعد موت الملك أبجر الخامس أوكاما، خَلَفه ابنه مَعنو السادس، الذي رفض الإيمان بالمسيح، فاضطهد المسيحيين الذين سارعوا إلى إخفاء الصورة-الكفن-المنديل، وبقي منسيًا لعدّة قرون، ولم يكتشف إلاّ بعد الفيضان الذي أصاب المدينة سنة 525، وأودى بحياة 30 ألف شخص، وهدم المراكز الكبيرة العامّة كلّها. عند البدء بترميم أسوار المدينة، عُثر على “الصورة” مخبّأة في طاقة ضمن السور. فأمر الإمبراطور البيزنطي يوستينيانُس الأوَّل (482- 565) بتشييد كاتدرائيّة ضخمة على اسم القدّيسة صوفيا، تكون على مثال شبيهتها في القسطنطينيّة، حيث وُضعت “الصورة” لتكريمها.

بقي الكفن في إديسّا قروناً، إلى أن نُقل إلى القسطنطينيّة سنة 944 وبقي قروناً فيها، وعندما استولى الصليبيّون على كنوز القسطنطينيّة وذخائرها، اصطحبوا معهم الكفن إلى جهة مجهولة. بعد ذلك ظهر الكفن في مدينة ليريه Lirey في فرنسا (1355)، وعرض في كنيستها بمسعى من الفارس الفرنسيّ Geoffroie de Charny I الذي يُعتبر المالِك الأوّل للكفن في الغرب. بعد وفاته انتقلت ملكيّة الكفن إلى ابنته مارغريت دي شارني، فباعته إلى لويس الأوّل، دوق ساڤوا، في 22 آذار 1453 إلى أن استقرَّ في كنيسة مدينة Chambery، في 11حزيران 1502.

وفي ليل 3 كانون 1532، شبّ حريقٌ في الكنيسة، فوصل إلى المكان المحفوظ فيه الكفن، وطال بعض أطرافه، مسبِّبًا بعض الخروقات في القماشة ما زالت ظاهرة حتّى اليوم. بعد فترة من الزمن، أرسله دوق ساڤوا إلى دير الراهبات الكلاريّس القريب لإصلاح الأماكن التي أتت عليها النيران.abjar 4

عندما اجتاحت الجيوش الفرنسيّة مملكة آل ساڤوا، انتقل الدوق شارل الثالث إلى مدينة تورينو، مصطحبًا معه “الكفن المقدس”، الذي عرض للمرة الأولى في 4 أيار 1535، الموافق “عيد الكفن المقدّس”، الذي كان البابا يوليوس الثاني أسَّسه سنة 1506. ثمّ جاب دوقات الساڤوا به المدن المختلفة، فانتقلوا به من تورينو إلى ميلانو وفرشللي ونيس ، وعادوا به إلى شامبيري (1561)، ثمّ إلى تورينو، ليستقرّ فيها في 14 أيلول 1578. عُرض الكفن أمام المؤمنين (4 أيار 1613)، بحضور أسقف جنيڤ، القدّيس فرنسيس دي سال، الذي كان يحمله بيديه… بعد ذلك عرض الكفن مرات عدة آخرها في 2010.

علم السندونولوجيا

بقي الكفن سالمًا من الفساد والاهتراء، رغم مرور ألفي سنة عليه، بحسب تقدير العلماء، أمّا أهميّته فتعود إلى الآثار التي تبدو عليه، وهي تُشير إلى أنّه استُعمل لتكفين جثمان رجل تَعرَّض لآلام مبرّحة، جُلد جسمه، وكُلّل رأسه بالشوك، وصُلب تعليقًا بالمسامير، وطُعن بحربة في جنبه، علاوةً على كدمات وجراح ونزف دمويّ هائل، ساهم في حصول الوفاة.

في مقاله له نشرت سنة 1976، كتب الراهب الساليزي بياترو سكوتي (أستاذ في جامعة جَنوى-إيطاليا): “إنّ دراسة الكفن غير ممكنة من دون العودة إلى نظرة شاملة للموادّ العلميّة المتعلّقة به. لذلك اقترحتُ، على أثر مؤتمر تورينو، الذي انعقد عام 1939، كلمة “سندونولوجيا” للدلالة على العلم الحديث الذي يجمع الاختصاصات المتنوعة في دراسة الكفن ويؤلّف بينها”. والكلمة سندونولوجيا متأتية من اللغة اليونانية ومركبة من كلمتين: سندون أي كفن، ولوجيا أي عِلم. في هذا السياق أُطلق على عالِم الكفن تسمية sindonologue بالفرنسيّة أو sindonologist بالإنكليزيّة. وأصبح هذا التعبير مقبولاً ومعتمدًا من الجميع.

يقال إن كلمة Sindon متأتية من Sidon نسبة إلى مدينة صيدا ، حيث يُمكن أن يكون الكفن قد حيك على النول. لمّا رأى عالِم الآثار Maurice Pillet صورًا لكفن المسيح قال: “لم تُحَك هذه القماشة في أورشليم، لقد صُنعت في منطقة صيدا”.zogbi 5

عِلم الكفن أو السندونولوجيا هو علم حديث العهد، ويشمل العديد من الاختصاصات، ويتطوَّر بسرعة، وقد غدا مادّة تدريس في معاهد اللاهوت والجامعات في أوروبا وأميركا.

تعود الدراسة الموضوعيّة الأولى عن كفن تورينو إلى رئيس أساقفة بولونيا في إيطاليا، ألفونسو پاليوتو (1598)، شرح فيها طبيعة الجروحات البادية على رَجل الكفن، مقارنًا إيّاها بما جاء على لسان الأنبياء والرسل، ومتوقِّفًا عند بعض التفاصيل الطبيّة، كمكان غرز المسامير في الجسم وعددها.

مَرَّت ثلاثة قرون دون صدور أيّ بحث علمي جديد، إلى أن جاءت الصور الأولى التي التقطها سِكُندو بِيّا (1898). في عام 1900، عرض الراهب الفرنسيّ المؤرِّخ أُوليس شوفالييه بعض الوثائق التي اكتشفها، واستنتج منها أنّ الكفن من صُنع أحد الرسّامين. لكنّ المعاينات المباشرة للكفن، بالإضافة إلى الصور العديدة التي التُقطت له لاحقًا، أثبتت عدم وجود أيّ مادة تلوينيّة اصطناعيّة على النسيج.

عام 1902، قدم البروفسور إيف دولاج المنتمي إلى مذهب اللاأدريّة Agnosticisme، بحثٍاً له إلى الأكاديميّة الفرنسيّة للعلوم، يشير فيه إلى قناعته بأنّ كفن تورينو هو نفسه الكفن الذي لُفَّ به جسد المسيح. بعدما عاين الكفن عن قريب، خلال العرض العلني الذي جرى في تلك السنة، وبعد عشرين سنة من الاختبارات، أصدر بيار باربيه ،طبيب جرّاح في مستشفى مار يوسف في باريس، كتابه الشهير الذي لم يزل، لغاية اليوم، يحظى بالاقبال، ويُعاد طبعه من حينٍ إلى آخر.

بعدما عاين الكفن عن قرب خلال العروضات العلنيّة التي حصلت في 1931 و 1933 و1978. قارن الطبيب انطوان لوغران الآثار الموجودة على نسيج الكفن، مع الآثار الموجودة على منديل يحمل شكل وجه القديس شربل، كان قد وُضع على وجه القدّيس، بعد حوالي خمسين سنة من موته، حين كان جسمه لا يزال ينضح عرقًا وموادّ أُخرى.
يعتبر فردريك زغبي، طبيب أميركي لبنانيّ الأصل، المرجع العالمي حول تأثيرات الصلب على جسد المصلوب، وقد أصدر كتاباً ( 2005) يؤكد أن جسم المسيح غُسل قبل إلقائه على الكفن، ولو لم يكن كذلك، لكان الكفن كلّه مغطّى بالدم، ومن المستحيل مشاهدة آثار الجروح واضحة كما تبدو عليه الآن، وأنّ رجل الكفن إنسان ميت، وتصلّب الجثّة واضح.

دراسات الزغبي لها مصداقيّة أكبر، كونها تّمَّت بعد أكثر من خمسين سنة، في زمن تطوَّرت فيه الأبحاث الطبيّة كثيرًا.

نسيج الكفن

العالِم جيلبر رايس ، أستاذ في معهد غانت Gent للنسيج في بلجيكا، كان أوّل مَن فحص نسيج الكفن (1973)، ثمّ أتى بعده، في السنوات اللاحقة، اختصاصيّون آخرون، تَلخَّصت ملاحظاتهم بالآتي:dellarovere. 6jpg

الكفن مصنوع من كتّان، يقال له في الفرنسيّة Lin، وفي الإنكليزيّة Flax، وهو أنواع. من المرجّح أنّ النوع الذي استعمل في نسيج الكفن هو كتّان برّي، وهو غير أي كتّان شائع. حالة الكفن جيّدة، ولا يتأثر بالشدّ أو الفرك، ولونه مائل إلى الإصفرار، كلون التبن. في نسيج الكفن بعض ألياف القطن، من نوع قطن الشرق، ربما أتت من النول الذي استُعمل سابقًا لنسيج قطعة من القطن، وهذا دليل على أصل الكفن الشرقي. إستلزم صنع نسيج الكفن نَولاً له أربع دعسات.

هناك عنصر صغير ولكنّه مهمّ، ويساعد على تحديد التاريخ التقريبيّ لصنع الكفن: إنّه طريقة التبييض. من الممكن تحويل الكتّان الخام، لّونه أسمر، إلى كتّان أبيض، وذلك إمّا بتبييض الأوتار قبل الحياكة، وإمّا بتبييض النسيج كلّه بعد حياكته. إنّ حياكة الكتّان دقيقة، كونه قليل التمدّد، ويجعله التبييض سريع العطب. لم تستطع المناويل القديمة حياكة الوتر المبيّض، ولم تعمل التقنيات اللازمة للنّسج بطريقة جيّدة، إلاّ منذ القرون الوسطى.

موقف الكنيسة

ليس للكنيسة موقفٌ صارم من كفن تورينو وألغازه. فهي لم تؤكِّد ولم تنفِ أن يكون هذا الكفن قد لَفَّ فعلاً جسد يسوع المسيح، ومنفتحة على النظريّات كافة، وتترك للعِلم أن يحكم. رغم عدم اتّخاذ الكنيسة موقفًا من كفن تورينو، إلا أن قدّيسين وبابوات من تكريمه، آخرهم البابا بنديكتس السادس عشر، ففي خطابه إلى المؤتمر الذي دعت إليه حركة “اتحاد وتحرّر” المنعقد في مدينة Rimini الإيطاليّة (آب 2002)، يقول الكردينال راتزينغر، رئيس مجمع العقيدة والإيمان، ما يلي: “…الذي هو الجمال بذاته، ترك ذاته كي يبصقوا في وجهه، ويلطموه، ويكلّلوه بالشوك… يمكننا أن نتخيّل ما جرى له، لكنّ كفن تورينو يساعدنا على رؤية ما حصل بشكل واقعي”.

وفي التأملات التي أعدّها لدرب الصليب الذي أقيم في الكولوسّيو – روما الجمعة العظيمة 2005، وترأسه البابا يوحنا بولس الثاني، كتب في المرحلة الحادية عشرة ما يلي: “يسوع مسمّر على الصليب… إنّ كفن تورينو يكوّن لدينا فكرة عن بربريّة هذا الأسلوب غير المعقولة”.

بعد انتخابه سمح بنديكتس السادس عشر، بإجراء عرض علني للكفن الذي أقيم في تورينو ( أيار 2011)، وقد حجّ إليها البابا، وأمضى فيها يومًا كاملاً، زار فيه الكفن المعروض، واحتفل بالذبيحة الإلهيّة مع الشبيبة في ساحة المدينة، وزار مأوى العجزة والفقراء.

في الجزء الثاني من كتابه “يسوع الناصري” يقول بنديكتوس السادس عشر: “فيما الإزائيّون يتكلّمون عن قطعة من كتّان، بالمفرد، يتكلّم يوحنا عن لفائف من كتّان، بالجمع (راجع يوحنا 19 : 40)… إنّ مسألة المطابقة بين هاتين الروايتين، من جهة، وكفن تورينو، من جهة أخرى، لا لزوم للتوقّف عندها، لأنّ شكل هذه الذخيرة يمكنه، بالمبدأ، التناغم مع هاتين الروايتين”.

كلام الصور

1- صورة للكفن

2- صورة لوجه المسيح على الكفن

3- الكفن محفوظ في كاتدرائية القديس يونا في تورينو

4- يقونة محفوظة في دير القديسة كاترينا في سيناء، وتعود إلى الأعوام 945 – 975 ، تمثل استلام أبجر “الصورة”

5- الطبيب فردريك زغبي

6- كفين المسيح المائت بعد إنزاله عن الصليب. للرسّام جيوڤاني باتيستا ديللا روڤيري (1561-1627)،

اترك رد