بقلم: أ. د. جورج زكي الحاج
إذا كانت الدول الصغرى تتعامل مع الخطط الخمسية (نسبة إلى خمس سنوات)، في مشاريعها الإنمائية أو التجهيزية أو العسكرية إلى ما هنالك… وإذا كانت الدول المتوسطة تتعامل مع الخُطط العَشرية (نسبة إلى عشر سنوات) في الأمور عينها، فإنّ الدول العظمى تتعامل مع خُططٍ تمتدُّ إلى خمسٍ وعشرين سنة، نظرًا إلى حجمها السكّاني أو العسكري أو الاقتصادي، خصوصًا إذا كانت تهدف من وراء هذه الخُطط إلى سيطرةٍ أو هيمنةٍ أو تقدُّمٍ في المجالات العصرية. وهذه الدول ترسم مستقبلها على ضوء النتائج التي تصل إليها بعد انقضاء مدّة الخطّة، فإمّا أن تُكملَ، أو تُصحِّحَ أو تتراجع، مهما كانت التضحيات، وسأتكلم على الاتحاد السوفياتي سابقًا كأُنموذَج، وسنرافقه على مدى قرنٍ كامل لنرى كيف كان المسار.
ففي العام 1917 قامت الثورة البلشفية في روسيا، على يدي الحزب الشيوعي، الذي أخذ في إرساء قواعد الاتحاد السوفياتي في أوروبا وغيرها، وكان تجربةً جديدةً في العالم يومذاك، فكان لا بدّ من البدء بتطبيق مفاعيل خطّة “الخمسعشرينية” لحصاد النتائج، وأخذ هذا الاتحاد بالنموّ بشكلٍ مُذهل.
وبعد انقضاء مدّة ربع القرن، أي في العام 1942، وفي أثناء الحرب العالميّة الثانية، التي دخلها الاتحاد السوفياتي، كان الجيش الألماني الهتلري يُقاتل السوفيات في أهراءات القمح في ستالينغراد، وكان الفشل الأول للخطة الشيوعية، إذا جاز التعبير، فليس سهلاً أن يبدأ قائدٌ عسكري كهتلر بتفكيك الاتحاد السوفياتي الذي كان يُشكّل ما يُقارب نصف أوروبا، ويدخل موسكو، مع ما تعني هذه العاصمة، ثم يُقاتل في كبريات المدن الروسية بالسلاح الأبيض، وفي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تتهاوى أمام ضربات الرايخ، وروسيا تُحاصر وتُهدَّد بالاحتلال الألماني، كانت الولايات المتحدة الأميريكية تحتضن دولاً عديدةً من القارة الأوروبية، وتُقيم معها معاهدات واتفاقيات إقصادية وعسكرية، من شأنها تقوية النظام الأميركي، الذي كان يتتقدَّم ليفرضَ نفسه القوّةَ العُظمى الأولى في العالم، بعدما برهنت أميركا أن دخولها في الحرب العالميّة الثانية كان السبب في دحر الجيوش الهتلرية، وإنقاذ أوروبا والاتحاد السوفياتي من براثن الغازي الألماني، الذي كان يُمكن له أن يُسيطر على غير قارةٍ واحدة، وأن يفرض العولمةَ التي يُحاولون فرضَها اليوم. وكان تقاسم القارة الأوروبية بين نفوذين: نفوذ مباشر للاتحاد السوفياتي، تمثّل في ما عُرف بأوروبا الشرقية كنتيجة ربح الحرب، ونفوذ غير مباشر للولايات المتحدة الأميركية ، تمثّل بأوروبا الغربية.
وإذا أكملنا مرافقةَ الخطّة، وجمعنا ربع قرن إلى تاريخ حرب الإهراءات، وصلنا إلى العام 1967، حيث كان السلاح السوفياتي يُدمّر كأنه لُعَبُ الأطفال، في مطار العريش المصري والمطارات الأخرى، وفي سوريا والأردن، وتنهزم الدول العربية المدعومة من الاتحاد السوفياتي في أقلّ من أسبوع… وهنا كانت النكسة الثانية للسوفيات، يُقابلها صعودٌ ظاهرٌ للولايات المتحدة الأميركية. فالخطّة “الخمسعشرينية” كانت عند الدولتين العُظميين بالتزامن.
بعد هاتين النكستين، أصبح وضعُ الاتحاد السوفياتي حرجًا، فالنكسة الثالثة ستكون بمثابة القضاء عليه (فالتالتة ثابتة)، إذا لم يستطع النهوضَ والتعويض عمّا مُني به، وعندما لم يكن بمقدوره ذلك سقط بعد مرور 25 سنة أخرى، وتحديدًا في العام 1992، تفكّك وراحت كلُّ دولةٍ تنعم باستقلالها، مقابل تقدُّم ملحوظ للولايات المتحدة الأميركية التي مدّت نفوذها إلى الدول التي كانت تدور في فلك السوفيات، بدءًا من دخول العراق وبعض الدول الأسيوية، لتصل إلى بعض الدول الأوروربية التي أنشأت لها ما يُسمّى بدول الاتحاد الأوروبي.
ومنذ عام السقوط، برزت أميركا القوّة الوحيدة في العالم. وهنا طُرح السؤال: إلى متى ستبقى أميركا أحادية النفوذ في العالم؟ خصوصًا وأنّ الـ 75 الماضية كانت تراجعًا للسوفيات وتقدُّما لها.
في رأيي أن عام سقوط الاتحاد السوفياتي محطّة مهمّة في التاريخ المعاصر لهاتين القوّتين العالميتين. حيث، في رأيي، أنّ العدَّ العكسيَّ الجديد قد بدأ، فأميركا ، منذ الغزو الأول للعراق في العام 1990، وهي في هزائم متكررة، إنْ في آسيا وإنْ في أوروبا وإنْ في إفريقيا، بعدما بُليت برؤوساء لا يعرفون غير القتل والتدمير سبيلاً للسيطرة، من جورج بوش الأب إلى جورج بوش الإبن، ولكي تُبرّر هزائمها وسوء تصرّفِها، ولكي تُغطّي انسحابَها من العراق، وانسحابها القادم من أفغانستان، فتحت الحرب على سوريا وعلى نظامها، وحوَّلت الأنظار إليها… في الوقت الذي بدأت فيه روسيا تستعيد نفوذها الذي خسرته منذ السقوط، وها هو بوتين يُحاول أن يُعيد هيبةَ الاتحاد السوفياتي الغابر بشكلٍ جديد، تحت إسم روسيا العظمى… وفي رأيي أيضًا أن العام 1915 أو 1917 ، أي بعد ربع قرن جديد لى آخر سقوطٍ للسوفيات، ستُسجِّل روسيا تقدُّمًا ملحوظًا في استعادة نفوذها، وستُسجِّل أميركا تراجعًا ملحوظًا أيضًا بالنسبة إلى ما كانت عليه قبل العُشر الأخير من القرن الماضي، وستكون النكسة الأولى لها، خصوصًا بعد تقلّص نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، وفي مناطق أخرى من العالم… ويعود ميزان القوى إلى السباق من جديد، فأنا أرى أن الاتحاد الأوروبي سائرٌ إلى التفكُّك بعدما فشل في أن يكون القوةَ الثانية في العالم، أو القوّة البديلة للولايات المتحدة الأميركية، أو القوّة الرديفة لها. فهل يحقُّ لنا أن نقول ببداية تراجع أحاديّة الهيمنة الأميركية في الالم؟ وهل ما زال الرهان على الأميركيين في كثيرٍ من الأمور هو الذي يربح؟ سؤال سيبقى برسم رب القرن القادم.