بقلم: د. محمود الذوادي (*)
يمكن إلقاء الضوء على حال علم الاجتماع العربي اليوم بطريقتين: إما بالنظر في مدى وجود الدراسات والكتب والمجلات وتدريس علم الاجتماع في الجامعات العربية ومراكز البحوث وغيرها من المؤسسات قبل استقلال البلدان العربية وبعده؛ أو بالنظر في مدى إسهام المختصّين العرب المعاصرين في علم الاجتماع في إنشاء رصيد معرفي فكري عربي جديد، من حيث المفاهيم والمقولات والنظريات المستلّة من معطيات المجتمعات العربية.
غير أن الدلائل المختلفة تشير إلى أن معظم المجتمعات العربية تلبّي قليلاً أو كثيراً المعيار الأول في قياس مدى حضور علم الاجتماع فيها. وتتجلى الفروق بين تلك المجتمعات، مثلاً، في مستوى صدور المجلات المختصّة في العلوم الاجتماعية.
أما المعيار الثاني، فيفضي إلى القول بأن إسهام علماء الاجتماع العرب المعاصرين في إنشاء وابتكار مقولات ومفاهيم ونظريات سوسيولوجية وليدة لدراساتهم الذاتية لواقع المجتمعات العربية، هو إسهام فقير جداً في المشرق والمغرب العربيّين، بحيث لا نكاد نجد أي شيء من ذلك القبيل لدى علماء الاجتماع العرب. ومن ثم ، لا يجوز الحديث عن وجود علم اجتماع عربي حقيقي بالمعنى الدقيق للكلمة ، في حال عدم اكتشافه مقولات ومفاهيم ونظريات وليدة الواقع العربي. فابن خلدون أسس علم العمران البشري الجديد بنجاحه في ابتكار مفاهيم جديدة، يأتي في طليعتها مفهوم العصبية ونظرية ” أن العرب لا يحصل لهم ملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة”. في حين أن ظاهرتي التبعية الأكاديمية والفكرية حاضرتان بقوة لدى أغلبية العلماء والباحثين في العالم الثالث. شخّص أحد علماء الاجتماع الآسيويين، وهو فريد العطاس، معالم تلك الظاهرة في العلوم الاجتماعية، والسائدة في القارة الآسيوية في كتابه Alternatives Discourses in Asian (2006)، متناولاً نتيجة هذه التبعية الأكاديمية بالقول إن الخريج من العالم الثالث (آسيا والوطن العربي وإفريقيا تحديداً) يتعلّم في الجامعة بحسب الأطر المعرفية الغربية ليصبح عقله سجين تلك المعرفة. بحيث تتأثر تصوراته لمجتمعه بالإطار العام لهذا التعليم. وبالتالي، فهو يعمّم الكثير من الأشياء التي تعلمها في الجامعات الغربية. الأمر الذي يحول دون إبداع علماء الاجتماع، نتيجة ضعف تكوينهم الوطني والمحلّي وعدم التوازن بين الثقافة الأصلية ونظيرتها الغربية كأساس للتفاعل المعرفي.
سعي إلى التوطين
على هذا، يتمثل مخرج علم الاجتماع من أزمته في السعي إلى توطينه، أي في إمكانية تأسيس فكر سوسيولوجي منبثق من واقع المجتمعات العربية، ومـن الرؤية المعرفية (ابستيمولوجيا) للثقافة العربية الإسلامية. فالمجتمعات العربية، كباقي المجتمعات البشرية، حبلى بالمعطيات والظواهر الاجتماعية التي تنتظر اهتمام الباحث الاجتماعي العربي للغوص في دراستها وتحليلها- وهو مؤهل أكثر من سواه – وبما يساعد في تأسيس فكر سوسيولوجي عربي يتصف بالروح العلمية والموضوعية والصدقية المعرفية. بعبارة أخرى، إن مادة البحث السوسيولوجي متوافرة بغزارة في المجتمعات العربية من الخليج إلى المحيط. وابن خلدون مثال متميّز على مقدرة العالِم العربي على دراسة المجتمعات العربية الإسلامية باستقلالية منهجية وفكرية مستقاة معرفياً وميدانياً من محيطه العربي الإسلامي. بحيث مكنته هذه الاستقلالية يومئذ من تأسيس علم جديد، هو علم العمران البشري.
إن ابتكار صاحب المقدمة لعلم جديد، انطلاقاً من معطيات المجتمعات العربية الإسلامية التي عايشها، أو التي عرف عنها، واعتماداً على فكره المشبع بالرؤية المعرفية الإسلامية، لهو خير دليل، من جهة، على واقعية الدعوة إلى توطين علم الاجتماع العربي اليوم في ثقافة المحيط العربي الإسلامي، وعلى مشروعية رفض علماء الاجتماع العرب اليوم التبعية العمياء للكثير من الرؤى المعرفية ونظريات ومفاهيم الفكر السوسيولوجي الغربي المعاصر في تحليل المجتمعات العربية الإسلامية، من جهة ثانية.
فتوطين أسس علم اجتماع عربي معرفيا،ً يعني غرس جذوره في تربة الرؤية المعرفية للثقافة العربية الإسلامية، بالنسبة إلى الظواهر التي يهتم بدراستها في المجتمعات العربية. وممّا لا ريب فيه أن في ذلك تأصيلاً مهمّاً للمعرفة السوسيولوجية في الوطن العربي، لا يقل أهمية عن عروبة وإسلامية القضايا والظواهر التي ينبغي أن تكون لها الأولوية في دراسات علماء الاجتماع العرب. وممّا يزيد في قوة مناداتنا بتوطين علم الاجتماع العربي في صلب الرؤية المعرفية للثقافة الإسلامية العربية، هو أن علم الاجتماع الغربي، المهيمن برؤيته المعرفية ومفاهيمه ونظرياته ومناهجه على باقي أنواع علم الاجتماع في القارات الخمس، يطرح قضية ابستيمولوجيا الفكر السوسيولوجي الغربي كأحد العوامل الرئيسة المتسبّبة في الأزمة المتواصلة التي يعيشها علم الاجتماع الغربي ، كما تحدث عن ذلك عالم الاجتماع الأميركي Gouldner في سبعينيّات القرن الماضي.
تأصيل علم الاجتماع العربي
بالتوازي مع الهيمنة الغربية سياسياً واقتصادياً وعلمياً وثقافياً منذ عصر النهضة، فضلاً عن عولمة المنظور الغربي للعلم والمعرفة في أغلب مجتمعات العالم، بما فيها المجتمعات العربية والإسلامية، يتبنّى معظم علماء الاجتماع العرب اليوم ذلك المنظور الغربي الذي يفصل بقوة بين المعرفة العقلية والمعرفة النقلية (المنبثقة من القرآن والسنة). وهم بالتالي لا يرحبون بفكرة تبنّي الرؤية المعرفية الإسلامية لتأسيس علم الاجتماع العربي كفرع معرفي ذي صدقية في فهم وتفسير شؤون الأفراد والمجتمعات البشرية. نقتصرهنا على ذكر ومناقشة ثلاثة معالم ذات علاقة بمدى مشروعية إنشاء علم اجتماع عربي مستند إلى الرؤية الثقافية العربية الإسلامية.
أولاً: لا يجوز على المستوى النظري إقصاء الرؤية الإسلامية من إمكانية إنشاء علم الاجتماع . إذ إن للعقيدة الإسلامية رؤية شاملة وتفصيلية حول الإنسان وسلوكياته، من ناحية، وحول المجتمع كنسق اجتماعي متكامل، من ناحية ثانية. ومن ثم، فالإسلام مؤهل مثله مثل الرأسمالية أو الاشتراكية، لتأسيس علوم اجتماعية تتماشى مع رؤيته للفرد والمجتمع، اللذين يُعتبران الركيزتين الرئيستين لنشأة علم العمران البشري الخلدوني أو علم الاجتماع المعاصر.
ثانياً: نجح ابن خلدون في اكتشاف علمه الجديد (علم العمران البشري) وفي إرساء أسسه عبر الملاحظات الميدانية والمفاهيم والنظريات الجديدة التي توصل إليها من خلال دراسته لمكوّنات المجتمعات العربية الإسلامية في المغرب العربي على الخصوص. ولقد أنجز ذلك التفكير الاجتماعي الرائد من دون أن يفصل بين معرفته العقلية ومعرفته النقلية في تحليله وفهمه وتفسيره لشؤون الأفراد والمجتمعات.
هكذا يصدق القول بأن النشأة الأولى لعلم الاجتماع، كفرع أو كتخصّص علمي مستقل وناضج، كانت نشأة عربية إسلامية الطبيعة. فهناك إجماع قوي في الشرق والغرب على أن ابن خلدون، العلّامة العربي المسلم، هو المؤسّس الأول في تاريخ البشرية جمعاء لفكر اجتماعي/سوسيولوجي (علم العمران البشري) عملاق قبل قرون من ميلاد أوغوست كونت Auguste Comte في فرنسا. يتحدث ابن خلدون نفسه عن الجذور الإسلامية لعلمه الجديد ” وأنت إذا تأملت كلامنا في فصل الدول والملك، وأعطيته حقه من التصفح والتفهم، عثرت في أثنائه على تفسير هذه الكلمات، وتفصيل إجمالها مستوفى بيّنا بأوعب بيان وأوضح دليل وبرهان، أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبَذانٍ”.
ثالثاً: إن النجاح الباهر الذي حققه العقل الخلدوني– الجامع بين العقل والنقل- في وضع الحجر الأساس لعلم العمران/علم الاجتماع الجديد، يطرح أسئلة فيها الكثير من التحدي لمسلمات العقل العلمي الغربي الحديث وقناعاته. ومن أبرز هذه المسلمات أن كسب رهان العلم الحقيقي والمعرفة الأصيلة والصحيحة لا يمكن تحقيقهما إذا لم يقع ذلكم الفصل الكامل بين العلم والعقيدة. لكن الشهرة العالمية لفكر ابن خلدون العمراني ذي الأرضية الإسلامية كما نجده في مقدمته يفند مثل هذه المسلمات. فالدين والعلم ليسا بالضرورة في حالة تناقض وعداء دائمة، كما هو الأمر في الثقافة الغربية المعاصرة. وإنما قد ينعمان بالتعاون والانسجام، بحسب تجربة الثقافة العربية والإسلامية وأبرز علمائها ومفكريها، وفي طليعتهم ابن خلدون. ومن ثم، ينبغي فهم إدعاءات العقل الغربي المعاصر، انطلاقاً من التجربة الغربية المتمثلة في الصراع الخاص بين الكنيسة، من ناحية، والعلماء والمثقفين، من ناحية أخرى. وبالتالي، يغدو من غير الموضوعي تعميم هذه التجربة الغربية على تجارب ديانات وثقافات أخرى. فالعقل المسلم لصاحب المقدمة، يطرح تحدياً جوهرياً أمام ادعاءات العقل الغربي المعاصر، ومن ثم يفتح الباب واسعاً للعلماء والمفكرين في كل الثقافات للبحث عن أكثر من طريقٍ أو دربٍ من أجل إنشاء وإرساء علوم ومعارف صلبة العود، وتحقيق ما يسمّيه العالم البريطاني سنو C.P.Snow بالثقافتين: The Two Cultures.
********
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق
(* ) أستاذ علم الاجتماع- جامعة تونس