بقلم: الأديب مازن عبّود
“ملعون ابن معلون من يمس شجرة التين. وابن زانية يكون من يسرقها. ولقيط كل من يتجرأ على شراء ثمارها من سارقيها”. كان هذا غيض من فيض مما كان يكتبه “جلول” على شجرة التين خاصته في حديقة دكانه في الحارة التحتا في “كفرنسيان”. فالهجوم كان أفضل وسيلة للدفاع عن التراب الوطني، كما كان يقول.
وكان كل من مرّ في محيط تلك الشجرة يتلعثم ويتوقف متأملا كل ذلك لدقائق حتى سميت تلك الشجرة شجرة السباب في “كفرنسيان”. وكانت العمة “فوتين”، عقيلته المصون، تنظر إلى الناس من الأعالي، من شرفتها. وتقول، في سر صمتها: “كل شخص متهم في هذه الناحية حتى تثبت براءته. فشعب “كفرنسيان” ملعون، تسري الرذالة في دمه حتى الإبراء المستحيل. اسألوني أنا القديمة والعارفة، فأبلغكم!!! ” إلا أنها كانت ترحب بهم في العلن، ضاحكة، وتقول بصوت عال: “بو نجور تو لي جور يا أحباء التانت، كيفكم؟؟ أي صباح الخير كل الأيام يا أحبائي، كيف احوالكم؟؟” فحين يصعّد الرجال تقابلهم النسوة بالليونة، بخاصة إذا كان الرجال من الشخصيات العامة المعروفة والحبوبة. وهذا ما كان “جلول” عليه. فقد كان مرتلا مرموقاً في كنيسة “كفرنسيان”. إلا أنه كان حين يدخل الكنيسة ينسى ما خارجها، ويروح ينعّم حلاسه ويبدل نظراته. فلكل مقام مقال. وما داخل مملكة الله ليس كخارجها البتة.
بدا “جلول” في هذه الأيام فخوراً بابنه الأكبر الذي أطلق على مولوده تسمية “دجوني” تيمنا به. إلا أنّ أحداً لم يفهم بداية كيف أضحى اسم “دجوني”، “جلولا”. والله على النيات يحاكم، ونية بكر”جلول” تسمية بكره على اسم أبيه. ولو أنه ظاهرياً، فقط، لم يتمكن من ذلك بسبب تدخل نسائي. وقد علق في بال الناس في تلك المحلة نظرية أفتاها هو، ومفادها :”إنّ اسم “دجوني” هو نفسه اسم “جلول” لكن بالإفرنجي”. فكان أن بارك له كبار القوم ونوهوا بمحبة الولد لوالده وإكرامه له، كما ببعد نظر ابن “جلول”. فالجميع في تلك البقعة كانوا يتحضرون للهجرة من دون أن يعلنوا ذلك. وتغيير التسميات يقع في إطار التحضير للمستقبل والهروب، وذلك بالرغم من كل الكلمات الطنانة والرنانة التي كان يطلقها قوم تلك القرية بين الفينة والأخرى حول التعلق بالأرض ومحبتها وما شابه، فقد كانت ضرباً من ضروب الفولكلور.
نعم، هكذا كانت تجري الأمور في تلك المحلة المحروسة من الله. فالاعتقاد يحل محل الحقيقة. يزيحها إلى الأبد. ويطويها في دياجير النسيان.
حرص العم “جلول” أن يكون له تلامذة كثر، فينقل إليهم معارفه. وقد كانوا يدخلون دكانه بوقار، فيستمعون إلى اخباره مع النساء، وسباقه وأخيه لسلب والدتهما مدخراتها في الولايات المتحدة الأميركية. ووالدتهما كانت قد فرت إلى “بروكلين” إبان الحرب الكونية الكبرى هاربة من الجوع. وعملت جاهدة لإعالة ولديها. فكان أن سلباها، لمّا كبرا، كل مدخراتها. وتركاها، كهلة في بلاد غريبة، تواجه مصيرها وحيدة.
حزن “برهوم” الصغير، الذي كان يوافي إلى ذلك الدكان أيضاً، إذ عرف أنّ العم “جلول” كان يرى بعين واحدة. وأدرك أنّ عين ذلك المرتل كانت مصوّبة إلى الخارج. وقد كانت تخدم الشهوة، وتبعد ذلك المرتل عن داخله المرير، الذي كان جهنمه. فجهنم وملكوت السماوات، كما كان يقول الخوري “الياس الجزيل بره”، يولدان ها هنا ونحملهما إلى هناك.