بقلم: الأديب مازن ح عبود
تطلع “برهوم” الصغير من حوله وضحك. فالدنيا بألف خير. جدته ترعاه كما ترعى دجاجتها وكرمها الذي غصّ بكل أنواع الأشجار المثمرة، من رمان وخوخ وإجاص وكرز وتفاح وما شابه.
وفي كرم جدته كان النحل يحوم، كما كانت الملائكة تحوم هناك. حديقتها كانت كقصصها جميلة كحلم. كان يفرح حين تكلفه أن يرصد تحركات جده ويبلغها عن العمة “روز” التي كان تتقصد أن تقله في سيارتها، من المنزل إلى دكانه في سوق “كفرنسيان”.
أحبّ “برهوم” أن يعيش في منزل جدّيه حيث كان يلتقي الخال “الياس” الذي يقلّه على دراجة نارية إلى العين. ويبني له خيمة من ” لزّان”، صيفاً، على سطح المنزل حيث يرصد الكواكب. عشق جلساته المطعمة بأخبار “نوح” و”موسى” و”ابراهيم” و”يعقوب” وغيرهم من الأنبياء. و كان يصطحبه إلى “كرم الحاج” حيث الأسرار والناس الراقدين في الحرب الكونية.
كانت الجدة مسرورة بحفيدها. وكانت تسأله أن ينصت إلى كل الناس كي ينمو. فبالكلمة يكبر الفتيان أيضاً. والكلمة ينزلها الرب حيثما يشاء وكيفما يشاء وعلى من يشاء حتى لو كان “سكيراً” أو ما شابه، كما كانت الجدة تقول. إلا أنها كانت تطلب إليه أن يصبح دكتوراً على شاكلة نسيبه د. غسّان الذي ما انفكّ يستعين بها لتفسير أحلامه. وقد أدركه يوافي إليها منصتاً إلى أقوالها وتفسيراتها للأحلام.
وجدّته كانت تخلع منديلها وتلوّح إذا ما رصدت طائرة فوق كرم “الحاج”. فاستراليا هي الطابق العلوي للمسكونة، كما كانت تقول. وهناك يقبع ابنها كما ابنتها. ولكم سمعها تقول: “صلي لخالك وخالتك المقيميّن فوق في اوستراليا”.
ما يزيد ذلك الحيّ حلاوة هو وجود “سبع” ابن عمه صاحب الاسم الذي يلغي مفاعيل السحر على النساء، فالسباع لا يغلبها أحد من الجن. إلا أنه كان مع السبع لا يلاحقان الحيوانات بل شاحنة النفايات. كانا مغرمين بانبعاثات المازوت. إلا أنّ مفاعيل المتعة كانت تنتهي مع صدوح صوت جدة السبع “منوش” التي إنّ نادت تهتز الأرض وتردد الجبال صدى صوتها. فيعود السبع من حيث أتى كنعجة. ويلاحق هو وحيداً شاحنة الزبالة التماساً لادخنتها. وقد ضبطه شرطي البلدية “الياس عيسى” بالجرم المشهود، فنهره أخ جده “خليل” وأصعده معه إلى السيارة الرباعية الدفع المخصصة لانتقال أركان السلطة المحلية في “كفرنسيان”، وأولادهم وأولاد أولادهم والمقربين. وقد سمعه يقول كلمات التقط بعضها من إذاعة “هنا لندن، صوت الإذاعة البريطانية” دون أن يعرف مغزاها :
“غريبون هم أولاد هذا العصر. إنهم عن حق أولاد الغازات الدفيئة والاحتباس الحراري”. فيرد عليه الشرطي، قائلا: “اسمع يا خليل بك. الأولاد من فصيلة القردة”.
كان الشرطي يضمّ إلى عائلة القردة كل شيء خارج عن المألوف. فترتسم الدنيا للصغير أدغالا تسرح وتمرح فيها القردة والكلاب على أنواعها. “فالقرد “سليم” اللحام مثلا قد ذبح قردة (أي عنزة)، القرود (أي الكلاب) لا تأكل منها. ولقد اعذر من انذر يا قرود”. وفق ما ابلغ جده خليل.
وسرعان ما مرت الأيام. ووافى “برهوم” يوماً من مدرسته كي يجد جده “خليل” ميتاً تلتف من حوله الندابات. فارتعد. ودارت الأيام ووجد الشرطي “بو عيسى” ميتاً قرب السنديانة العظيمة حيث كان يوافي كي يستجم. ولحقت جدته بهم إذ آثرت أن ترقد في اثنين عيد الفصح بعدما امتنعت عن تناول الطعام، قبيل نهاية الأسبوع العظيم. وجده كان آخر الراحلين، ومعهم جميعاً انطوت الطفولة والاحلام الزهرية.
وبدأ “برهوم” يكتشف واقع حال الحياة المرة غالباً في “كفرنسيان”.