مسافات: الغابة 1 

 يتوقُ النهارُ اليها

 

 

 

منيرة مصباح

 

يَفْتحُ غابةَ الليْلِ، يحصدُ العُشْبَ، 

سنابِلَ قمْحٍ وجذورَ فتْنةٍ، 

ويَمْشي بَحْثًا عن شَغَفٍ …. 

حين التقَيا على حافّةِ النورِ في مدينةٍ مُضاءَةٍ، 

هاجِعَةٍ بين ضِفافِ الأشْجارِ ….  

بين غيْماتٍ متناثِرَةٍ فوق وسادَةِ السماء..

أدْخلَني للتَّوّ ذلك الفِرْدوسَ الذي أخْشاه… 

سَحَبني  سُؤالٌ مُتسَرِّبٌ من ثقوبِ لفائفِ الذاكِرَةِ، الى غرفٍ مليئةٍ بالكُتبِ، 

مكَثْتُ فيها طويلا أسامِرُ نظَرِياتِها، أسافِرُ نحو كواكبَ مليئةٍ  بالعسلِ والتُفاح، 

أنادم مَخْلوقاتٍ فِكْريَّةٍ وأفْتحُ كُتُبًا مُزْهِرةً بشجرِ الشِعر.

مرَّةً جاءني كتابُه في سفرٍ لَيْلِيٍّ.. المَساءُ بدأ يوغِلُ في جَسَدِ النهار.. 

صَعِدْنا معًا سُلَّمَ المَعْرِفَة نحو شَفَقٍ مُذهَّبٍ بنور الكَلِماتِ وألْوانِ الفُنون..

 

كان المَشْهدُ الغَسقِي المُخطَّطُ بالغَيْماتِ قد حلّ فيهِ 

وسُرْعان ما اخْتفى بألْوانِهِ وكَلِماتِه خَلْفَ الشَمْسِ… 

مَشَيْنا نَبْحَثُ عن مَمَرٍّمُغَطَّى بالفِتْنةِ، سحيقٌ ولا نِهائيّ…. 

أثْناءَ سَيْرِنا، بَدأ يَسْتَغيثُ بالمُسْتَقْبل من الزَمنِ وقُوَّتِه، 

بالهَواءِ من الكَلماتِ وهُروبِها، 

بالشِعْرِ من سُخونَةِ الشَّوْقِ وإشْراقِه، 

بالمَعْرِفَةِ من غُرْبَةِ الفَلْسَفَةِ ونيرانِها، 

بالفَرحِ من الأوْتارِ وأحْزانِها، 

كأنَّهُ يَنْحَتُ من ظُلْمَةِ اللَّيْلِ مِقْعدًا وخَيالًا 

ويُفكِّرُ بين كَلمَةٍ مُشْرِقَةٍ وشَمْسٍ غائبَة.

 

سِرْنا بمُحاذاةِ المَعْرِفةِ التي سَقَتْ ابن رُشْد من تأويلاتِها، 

ورَوَّتْ “هيغل” من فَلْسفَةِ جَمالِها،

ثم انْدَلعَتْ التداعِيات نحو “الأيديولوجيا والدياليكتيك”، 

نحو “ديمُقْراطِية” المَطر و”ديكتاتورية” العناصر.

أفْكارٌ لا حدودَ لها تسيرُ في أوردتنا، غارقةً بعقولِ الكُتب.

فجأة داهَمنا نُعاسٌ حَريريٌّ، يتسرَّبُ من بَرْقِ أعْيُننا، 

وحَبَقٌ يتطايَرُ من ألْفَتِنا البَعيدَةِ الى نوافِذ زجاجِيَّةٍ  

تتدَلَّى من خاصِرَةِ الهَواءِ في حُنْجُرتِنا المليئةِ بالفرَحِ والغَصَّةِ والغِياب.

 

هكذا اكْتَشَفْتُ كيف يَلوذُ المَنْفِيُّ بِعناقِ الحَبيبِ، 

اكْتشَفْت كيفَ تُصْبِحُ أصْواتُنا المُغَطَّاةُ بِصَدَأ الآلامِ 

جَميلَةٌ وآسِرةٌ حين نَعْشَقُ بإشْراقٍ،

اكْتَشَفْتُ عِبْرَ مَساحاتٍ عَطْشى

 كيف يكونُ عشبُ “وولت ويتمان” حافِلًا بالحُبِّ والحَياةِ،

اكْتَشَفْتُ أن الطُفولَةَ  لم تَكْبرْ بما يَكْفي 

لِتُعْلِنَ خروجَها من البَراءَةِ، 

انها تَكْبرُ في ذِكْراها حتى النِسْيان، 

هي مُقيمَةٌ في الأبَدِيَّةِ، في الزمانِ واللاّ مَكان، 

حتى لو تَدلَّتْ شَجرًا ودَنَتْ أغْصانًا.

 

ما أقْسى ان تَشْتاقَ القَصيدَة…

فذلك دونَهُ الشِعْرُ والوَجْدُ، 

كلُّ قواميسِ اللُّغاتِ.. 

وكلُّ الفِتْنَةِ العابِقَةِ في صُدورِنا… 

ما أجْملَ أنْ تُحِبَّ القَصيدَة…

ذاك الشِّعْرَ الذي يَتوقُ كَثيرًا .. يَعيُش كَثيرًا..

 

اترك رد