منيرة مصباح
تلاقح أنماط المعرفة يشكل العامود الفقري في مبدأ تواصل الحضارات في الفن البلغاري الحديث رغم كثرة المدارس والاتجاهات الفنية المتبعة لدى فناني بلغاريا في الحفر والنحت والرسم والتصوير. وهذا التفاعل لا يعني الاستلاب، فالمناهج كلها من صنع البشرية، وبالتالي هي ملك لها. والفنان القادر هو الذي يكيّفها مع حركة مجتمعه وأمته. إلى جانب ما يقدمه من إضافة إبداعية خاصة تُبْرز تميُّزه الفني.
وقد وعى الفنان البلغاري هذه المعادلة الفنية الأساسية الصعبة. لكنه في تاريخ الفن البلغاري قد استند على اتجاهين أو مدرستين هما المدرسة اليونانية والمدرسة البيزنطية. ولتوضيح هذه المؤثرات، نذهب الى اعمال الفنان “ستيفان ستيفانوف Stefanov” الذي يعتبر أحد أبرز الفنانين البلغار المعاصرين، حيث نستشف من أعماله مدى وعي الحركة التي أسس من خلالها عالمه الفني، ذلك العالم المفتون بنبضه المجسم في أعماله الحفرية. إن “ستيفان ستيفانوف Stefanov” يجسد محتجا عنف العصر، حيث تبرز حركة شخوصه الغرافيكية والنحتية غير مقيدة بمنطق أو تصور، فهي تتخذ شكلا متحديا كل صيغ الأشكال البشرية.
وقد شغل “ستيفان ستيفانوف” سابقا الإدارة العامة للمتحف الوطني للفنون الجميلة في بلغاريا، كما عمل استاذا لفن الغرافيك في أكاديمية الفنون في صوفيا التي تأسست قبل قرن وربع القرن من الزمن تقريبا، وقد اضاف على الفن البلغاري الحديث كافة الفنون الحديثة، مع الإبقاء على كثير من لمسات روح الشعب فيه. لكن من الطبيعي تأثّر الفن البلغاري والفن في العالم بشكل عام بالفن اليوناني، خاصة فنّ النحت، فالفن الإغريقي هو النموذج الجمالي لكل الفنانين العالميين رغم كثرة المدارس الفنية الأوروبية الحديثة.
أما تأثير الفن البيزنطي فهو ملموس في الفن البلغاري وفي كافة الفنون عند الشعوب السلافية، لذلك نجده في الأعمال الفنية التي تتناول رموز الديانة المسيحية.
والفن البلغاري المعاصر يتخذ المكان المركزي في الحياة الاجتماعية حيث يكون الإنسان هو الرؤية الأساسية في كل عمل فني لأنه يعكس واقع الحياة، كما ينطبع هذا على واقع الفن في العالم، وذلك لأن الإنسان بفعل انجذابه للصارخ من الموروث، قد وصل إلى مرحلة المصير الغامض، حيث يلفه الضباب الذي يبدو غارقا فيه إلى درجة ما قبل التلاشي.
إنه يجسد حالة العبثية والبحث عن لا شيئ، مؤكدا على فشل كل محاولات التعويض التزويقي لحضارة الزيف التي يعانقها الإنسان ويبنيها على أسس غير دائمة وغير صحيحة. وقد أصبح الفنان الآن يغوص بوعيه إلى أعماق الكائن البشري، ليتساءل عن استمرارية هذا الانحراف في فهم الكون، وفي الاتجاه نحو لا جدوى بكل قوة ودعم من كل القوى المسيطرة على حركة الحياة، من هنا يظهر دور الفنان في العمل الفني.
يتميز الفن البلغاري التقليدي عن الفن المعاصر بانه كان يحمل بعض الاعمال التصويرية الزيتية التي تمثل رموز الدين المسيحي الى جانب بعض التكوينات الأخرى.
وقد تطورت الفنون في بلغاريا منذ نهاية القرن التاسع عشر حيث تم رغم التقاليد التاريخية العريقة، تأسيس فن بلغاري على أسس خاصة به تحت تأثير التيارات الأوروبية الحديثة، من التعبيرية إلى التأثيرية إلى السريالية إلى الرومنطيقية إلى النمط التقليدي. لكن أهم ما يميز الفنون هناك هو فن الحفر المتقدم عن غيره من الفنون في العالم حيث يقام في صوفيا دوريا “بينالي” عالمي لفن الحفر كل سنة، ففنانو الحفر العالميون أكثرهم من أصول أوروبية شرقية. لقد وصل الحفر البلغاري بتطوره لمستوى الحفر الياباني. كما أنني من خلال اطلاعي على هذا الفن أستطيع أن أقول: الحفر الياباني أكثر تطورا من الحفر الصيني.
الفن بشكل عام يمثل إحساس الفنان مع ما يحمله من تقنيات فنية عالية، ومعظم ما يعرض منه موجه لمن يريد أن يضعه في بيته كصورة تشكيلية أو لوحة حفرية أو نحتية جميلة، وهذه الأنواع من الفن تختلف بالطبع عن الفن الذي يعرض في الأماكن العامة. فالنحت هو تحرر بالتعبير الفني الذي ينطوي عليه العمل للدفاع عن أي قضيه، وهو يمثل قاعدة متطورة ورئيسية في بلغاريا الحديثة. وللعلم فان اهم فناني الحفر في العالم البروفسور التشيكي “خلو جمنيك”، وهو نحات ورسام عمل بجانب بيكاسو وشاغال، وبعض الفنانين المكسيكيين، ودعي للعمل في بعض كنائس الفاتيكان، أما “فيكتور فازاريلي Victor vasarely” فهو معروف في كافة أنحاء العالم كما في الأوساط الثقافية في أوروبا الغربية، وهو هنغاري عمل في ألمانيا وتوفي فيها. و”إيرجي أنديرلي” التشيكي الذي فاز بالجائزة الأولى في بينالي بلغاريا لفن الحفر في احدى السنوات، هذا إلى جانب كونه مؤسسا لمسرح “البنتوميم” الإيمائي.
وعلى ذكر المسرح وارتباطه بالفن التشكيلي يقول مدير المتحف الوطني في صوفيا، لا يمكن أن يكون هناك مسرح أو سينما بدون فن تشكيلي، فالفنون كلها ترتبط بشكل ما ببعضها. ومن الضروري أيضا أن يتصل هذا الفن بكافة الفنون الجماهيرية الأخرى. لكن لا نستطيع أن نحدد مدى اقتدار الفنان على التزامه بمبدأ تفجير الأشكال الفنية واستيعابه لمعطيات التفاعل والتلاحم بين الإطار وبين المحتوى، والفنان هو القادر على الإبداع منذ بداية الفكرة للعمل الفني إلى التنفيذ إلى تقديم العمل للناس، هذا إذا استثنينا الأعمال الفنية الضخمة، كالجداريات والنصب التي تحتاج للأدوات التقنية العالية وللكثير من الفنيين.
أما عن علاقة الفنون التشكيلية بالرواية والقصة الشعبية والاسطورة التاريخية فان العلاقة مباشرة بينها، فالنحاتون متأثرون بالطبع بالأدب البلغاري، لذلك نرى كثيرا من الرسوم التي توضع للكتب خاصة كتب الأطفال منها. و”ستفانوف” رسم كثيرا للعديد من الكتب البلغارية والكتب الأجنبية، وقد قدم مع مجموعة كبيرة من الفنانين، معرضا جميلا بعنوان “الأساطير البلغارية القديمة” حيث تنوعت فيه الأعمال بين الحفر والرسم، وكان مفاجأة للعديد من الناس، لقدرته على استيعاب واحتواء التراث الحضاري المتجذر لدى الفنان البلغاري بثقافته العميقة، لدرجة أن المقاييس جعلته يبحث عن المعاني الأدبية التي يختزنها دون أن يكتفي بالمعنى الذي يكمن في الإطار الجمالي فقط.
والمدرسة التي ينتمي اليها هي المدرسة السريالية المتقدمة جدا والمتفوقة على المدرسة الواقعية، فهي تبرز كافة أحاسيس الإنسان ومشاعره في فن النحت والحفر خاصة، فهذه المدرسة في هذين الفنين لا يمكن أن تكون تقليدا للنص الأدبي، إنما يأتي العمل الفني طرحا للموضوع من خلال الطاقة الإبداعية المتكونة بالممارسة الفنية والتقنية لدى الفنان. وهي تتفجر كما موقف الفنان في كيفية ترجمتها بالأدوات التشكيلية المختلفة، وبطبيعة الحال كل عمل فني يحمل معه الدوافع المختلفة لعملية الانجاز التقنية والفنية. والفنان لا يضع أمامه فكرة إرضاء المشاهد انما كيفية أثر الصورة أو الحجر المنحوت عليه حين يضع فيهما روح الانسان الباحث دائما عن الجديد والمتقدم والمتطور، انه رمز للقوة وللجمال.
وإذا كان النحت هو تعبير درامي قوي خاضع لتطور التقنيات الحديثة فنا وفكرا. فان الفن البلغاري هو فن محب للسلام، الى جانب انه يعكس نضال الشعوب، فهو يحرر الانسان من التجمد الروحي ومن الدمار النفسي، لذلك نرى كيف تطور الفن الذي تأسس على البناء الاجمل والأفضل للإنسان فمن خلال الفن يصبح الانسان أكثر نبلا، ودوره الأساسي الارتقاء بالذوق والارتقاء بالتأثير الإيجابي على سلوكياته وعلى تفكيره وعلى روحه. والفن موجود في كافة ميادين الحياة، هو يحيط بنا وما علينا الا ان نراه ونستمتع به.
ان أعمال “ستيفانوف” الفنية في معظمها تتناول قضية الانسان والحياة، أحلامه وطموحاته، مشاكله ومآسيه، هي الحياة يبدع فيها الانسان ويدخر في ذاكرته.